لم يحجب الدخان الرمادي المنبعث من مطابخ القوانين والصيغ الانتخابية، دخانا آخر اسودا بلونه وانما ابيض بفعله، تصاعد من غرفة عمليات الجيش اللبناني في وزارة الدفاع التي زارها رئيس الجمهورية وفقا لترتيب سابق اعدت لها كل العدة لتكون غير عادية مقدمة هدية تليق بالزائر الكبير، الذي استرجع ذكرياته الماضية في الاروقة وهو في طريقه الى العمليات تحت الارض.
فالرئيس الجنرال الذي حفظ اروقة وسراديب مقر قيادته في التسعينات لم يجد نفسه غريبا وان كانت الزيارة هذه المرة طعمها مختلف لشمولها غرفة العمليات، اذ اقتصرت في المرات السابقة على جناح قائد الجيش وفي المرة الاولى مبنى مديرية المخابرات حيث كان يحتجز رئيس حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع.
من مكتب قائد الجيش الذي شهد خلوة ضمته الى وزير الدفاع وقائد الجيش وعدد من ضباط القيادة، الى غرفة العمليات تحت الارض دقائق اختصرت في ذاكرته رحلة طويلة قبل ان يصل وياخذ مكانه متوسطة القائد والوزير امام شاشة ضخمة اعتادت نقل وقائع الاحداث الميدانية عن الجبهة الشمالية مستمعا الى شرح من احد ضباط العمليات عن تفاصيل العملية التي ستنفذها القوات الجوية ضد اهداف لداعش ونوعية الاسلحة التي ستستعمل، قبل ان يبدأ التنفيذ وسط الفرح البادي على الوجوه مع كل اصابة هدف بصواريخ حملت رسائل الى شهداء سقطوا في معارك مواجهة الارهاب، اصابت اهدافها بدقة، مثبتة مرة جديدة كفاءة الطيارين اللبنانيين وحسن استخدام السلاح المطور محليا باقصى طاقته.
غير ان في المقلب الآخر من الصورة كان ثمة همس وغمز في القيادة حول شيء امني ما حدث في منطقة جرود عرسال… فما الذي حصل بالضبط؟ حتى الساعة يلف الغموض وقائع احداث الساعات الماضية التي شهدتها تلك المنطقة التي وان كانت في المبدأ منطقة عمليات خاصة بالجيش اللبناني الا انها تبقى مفتوحة نظرا لامتدادها الجغرافي وتداخلها مع مناطق اخرى واتساع رقعتها الجغرافية، خصوصا انها تقع عند تخوم الحزام الامني الذي يقيمه الجيش في محيط عرسال، وهي منطقة تشهد في العادة زيارات لقيادات جبهة فتح الشام خصوصا الى منطقة الملاهي حيث يتواجد مخيم كبير للاجئين تقطنه عائلات بعض المسلحين ، كما انه المنطقة الوحيدة التي يتواجد فيها ارسال للهواتف الخليوية، وعليه تكشف المصادر انه ومع ساعات ما بعد الظهر سمع دوي انفجار ضخم ناجم بحسب الخبراء عن «تشريكة» عبوات استهدف موكب لقيادات من الجبهة، ترجح المعلومات ان يكون ابو مالك التلي احدها، اظهر استطلاع مكان العملية عن تدمير سيارة كيا سبورتج بيضاء اللون درج التلي على استخدامها، والتقاط عملية التنصت والرصد على الاتصالات اللاسلكية للمسلحين ووقوع عدد من القيادات بين قتيل وجريح من بينها، ابو خالد التلي الرجل الثاني في الجبهة بالقلمون، والمسؤول اللوجستي العام ابو بكر السوري، دون ان يتم تحديد مصير اي منهما بشكل نهائي وواضح.
مصدر امني مطلع افاد من جهته ان الجيش نفذ بالامس عملية روتينية تندرج في اطار تعهده للمسلحين حيث استهدف مواقع تابعة لتنظيم الدولة الاسلامية في منطقة جرود راس بعلبك ادت الى تدميرها بالكامل عبر غارات نفذتها ثلاث طوافات من سلاح الجو اللبناني، وهي جاءت بمثابة هدية لرئيس الجمهورية الذي خص قيادة الجيش بزيارة خاصة هي الاولى له بعد تسلم العماد جوزاف عون لمنصبه وللوقوف عن قرب على حاجات الجيش والاطلاع على الجهوزية العملانية التي تتمتع بها قوى الجيش المنتشرة سواء على الحدود او التي تقوم بعمليات حفظ امن ، ولمواكبة التطور التقني الذي بلغته غرفة العمليات في القيادة وآلية عملها والتنسيق القائم بين مختلف القطع، وهو ما حاز على اعجاب وتنويه العماد عون الذي اشاد بمهارة وكفاءة العاملين في الغرفة وعلى الارض وبالاستراتيجية المتبعة وسرعة ودقة العمل، حيث تابع مباشرة عبر البث الحي الغارات التي استهدفت مواقع الارهابيين.
اما حول الجهة التي تقف وراء عملية الملاهي – وادي الحصن تتكتم المصادر حول هويتها، خصوصا ان اي تحليق مروحي لم يسجل في سماء تلك المنطقة، جازمة بان الجيش لا يتقاسم منطقة عملياته وانتشاره مع اي جهة مسلحة اخرى، ضاربة اكثر من فرضية حول المنفذ، الذي قد يكون مجموعة خاصة من حزب الله، او قوة من داعش في اطار حرب التصفيات القائمة بين التنظيمين منذ مدة في اطار سعي كل منهما للسيطرة على المنطقة، وان كانت الدلائل تشير ترجح الفرضية الاولى نظرا لتشابه العبوة مع ما يستخدمه الحزب ضد اسرائيل او في الداخل السوري، داعية الى انتظار الساعات المقبلة الكفيلة بكشف كل الحقائق ونتائج العملية، التي يمكن اعتبارها بالضخمة والنوعية امنيا، كونها تحتاج الى جهد استخباري ومعلوماتي كبير.
العملية التي كان سبقها قصف مدفعي عنيف ومركز من مرابض مدفعية الـ 155 المتمركزة في السهل وراجمات الصواريخ عقب الاشتباكات العنيفة بمختلف انواع الاسلحة الرشاشة والصاروخية من خفيفة ومتوسطة ،التي شهدتها جرود عرسال عند محور يونين – نحلة والتي استمرت زهاء ساعتين ونصف بين فصيلي جبهة «فتح الشام» و«سرايا اهل الشام»، على خلفية ما يشاع عن قرار شبه مبدئي بالانسحاب من منطقة الحدود اللبنانية – السورية باتجاه ادلب، نجحت ثلاث مروحيات للقوات الجوية اللبنانية تحت غطاء من طائرات السيسنا بتنفيذ سلسلة غارات استهدفت مواقع لداعش وسيارات وآليات في جرود راس بعلبك ما ادى الى اصابة الاهداف بشكل مباشر.
ما خلا بعض «الحرتقات» الإعلامية، والمناوشات السياسية، ليس في البلاد ما يوحي أنها مقبلة على أزمة سياسية كبرى، إذا لم يتم التوصل إلى قانون انتخاب جديد بحلول العشرين من حزيران، في الوقت الذي ترسل فيه قيادة الجيش رسائل من نوع آخر.