يعشق اللبنانيون الرهانات، المصيرية منها خصوصاً. ويبالغون في تحديد مواعيد ساعات الصفر. وآخر هذه الساعات، التعيينات الأمنية الشهر المقبل، وهي مشروع اشتباك داخلي، يهدد في حده الأدنى بانفراط العقد الحكومي، وبالتالي يصيب الدولة ومؤسساتها بالشلل الكامل. من المفترض في أيام الجنون الإقليمي أن يهدأ اللبنانيون قليلاً، ويبتعدوا عن حافة الهاوية التي ما عادوا يعرفون طريقاً غيرها.
اليوم باتت الصورة معكوسة، وما قبل «كامب ديفيد» ليس كما بعدها. وإلى أن نعرف تفاصيل أكثر عن اليوم الأميركي ـ الخليجي الطويل، نكتفي بتسجيل الاختراقات الميدانية على طول الجبهات المشتعلة من الموصل إلى القلمون، وجميعها تحت عنوان «الحرب ضد الإرهاب». حتى النكسة في الرمادي استدعت مقاربة أميركية مختلفة، أعادت الاعتبار الى «قوات الحشد الشعبي» المشتركة بين السنة والشيعة، ما يعني تزخيم القوى المشاركة في الحرب المذكورة. ويعني أيضاً رسالة الى قوى خليجية أخرى بضرورة تبديل وجهة بنادقها، لأن الضبابية، والحسابات الضيقة لولاة الأمر، لم تعد مسموحة كموقف من «الإرهاب» بأشكاله «الداعشية». الصورة لن تكتمل بالطبع قبل توقيع الاتفاق النووي بين واشنطن وطهران، خصوصاً أن المزايدات الإسرائيلية المهولة بعدوان مفاجئ يقلب الطاولة، انتهت بإقفال صناديق الاقتراع، وتربع بنيامين نتنياهو على رأس حكومة تقف على رجل واحدة.
«حزب الله» نجح بتوسيع شبكة الأمان بمعارك القلمون الخاطفة. كذلك استمرت الأجهزة الأمنية بتفكيك الشبكات الإرهابية، برغم الشلل الحكومي المتواصل. وبدلاً من التنعم بتراجع منسوب الخطر، ننشغل باحتمالات التفجير الداخلي، والحديث عن خيارات انتحارية للجنرال ميشال عون، يهد من خلالها البلد على رؤوس ساكنيه، ما لم يصل هو إلى بعبدا، وصهره الى قيادة الجيش.
من السهل تلقف الحالة العونية واتهامها بالجنون. ولكن من مجريات الأيام الأخيرة يبدو الجنرال عاقلاً أكثر مما يجب. كان من المفترض أن يعلن الجنرال الحرب على الجميع، حلفائه الذين لم يمشوا معه إلى آخر الطريق، وخصومه الذين لم يقبلوا بأي مساحة مشتركة بينه وبينهم، برغم محاولاته المتكررة لذلك.
في إطلالاته الأخيرة، لم يفجِّر الجنرال الهيكل. دعا بهدوء غير متوقع إلى الحوار حول مخارج محتملة للأزمة الرئاسية التي تطوي عامها الأول. بالإمكان تصوير دعوته إلى انتخابات مباشرة للرئيس بأنها خروج على اتفاق الطائف. أي العقد الواهن الذي لا يزال يجمع اللبنانيين رغماً عن أنفسهم. ولكن الدعوة ما تزال دعوة ديموقراطية تتيح للمسيحيين أن يختاروا فيما بينهم رئيساً يصل بأصواتهم أولاً وبأصوات المسلمين ثانياً إلى قصر بعبدا، وبالتالي لا شك في وطنيته أو دستوريته أو شرعيته الشعبية، ويجسد شراكة فعلية. لا ضرر في مشروع كهذا ولا خروج عن الميثاقية، الا إذا كنا نعتبر الناخبين قاصرين. ومع ذلك تبقى الفكرة صالحة للاختبار خصوصاً أن لبنان كبلد كل ما فيه وجهة نظر غير محسومة بعد، لا محلياً ولا دولياً. جولات نواب الجنرال عقلانية وضمن المنطق، ولو اتهم عون الحكومة او بعض إجراءاتها باللاقانونية وغير الشرعية.
تبقى رؤية الجنرال لانتقال السلطة، أكثر التصاقاً بمنطق الأمور مما نسمعه في هذه الأيام عن أشكال انتقالها في عائلات جنبلاط والجميل وفرنجية وغيرها الكثير من السلالات الحاكمة. عون عسكري ماروني من حارة حريك. مجنون يحكي وعاقل يفهم.