مرّ «قطوع» جلسة الحوار الثانية على خير. وصل المتحاورون إلى ساحة النجمة في الوقت المحدّد، وغادروا بعد انتهاء الجلسة، من دون أن يعطوا المتظاهرين ضدّهم «امتياز» منع أيّ منهم من الحضور والمشاركة، أو حتى إعاقة طريقهم، كما كانوا يهدّدون ويتوعّدون، وذلك بفعل الاجراءات الأمنية الاستثنائية التي أحاطت بالجلسة، ترجمة لما قيل أنّه قرارٌ سياسيٌ أمنيٌ كبير اتّخِذ خلال الساعات الماضية بإنهاء الحراك المدني ووضعه عند حدّه.
وحده رئيس تكتل «التغيير والإصلاح» العماد ميشال عون لم يحضر في الموعد المحدّد، ليمثله رئيس «التيار الوطنيّ الحرّ» الجديد وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل، في مشهدٍ لم يُعرَف ما إذا كان «لمرّةٍ واحدةٍ فقط» كما حاول رئيس المجلس النيابي نبيه بري أن يصوّره بقوله انّ عون أبلغه أنّه سيغيب عن هذه الجلسة ولكنّه سيحضر جلساتٍ لاحقة، أو اذا كان سيتحوّل إلى إجراءٍ دائم، علمًا أنّ بعض الأوساط بدأت تسرّب نيته الانسحاب من الحوار نهائيًا، سواء بشكلٍ مباشرٍ عبر حضوره الشخصي أو غير مباشر عبر حضور من يمثله.
اللافت في الموضوع أنّ العماد عون كان بغيابه عن الحوار «نجم الجلسة» من دون منازع بحسب ما تؤكد مصادر سياسية واسعة الاطّلاع، مؤكدةً أنّ هذا الغياب لم يكن لأسبابٍ شخصيّةٍ أو صحيةٍ أو لظروفٍ خاصة، بل كان مقصوداً ومتعمّداً وعن سابق تصوّرٍ وتصميم، انطلاقاً من أجواء الجلسة الحواريّة الأولى التي لم تكن مشجّعة بتاتاً بنظر «الجنرال»، الذي اصطدم برفض الأفرقاء الآخرين كلّ ما يطرح من أفكار ومشاريع حلول حتى من دون إخضاعها لمجرّد النقاش.
عمومًا، تشير المصادر إلى أنّ الأجواء غير المشجّعة نفسها لمسها ممثل «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل في الجلسة الثانية، الأمر الذي دفعه للحديث عن «خلاف في المبدأ بين المتحاورين»، وهو لاحظ في هذا الإطار أنّ «التيار» يسعى لإعادة الاعتبار للإرادة الشعبيّة، وهو ما يرفضه الفريق الآخر الذي يتمسّك بمطلب انتخاب رئيسٍ «إداريّ» ولو كيفما كان. ولعلّ ما زاد من هذه «السلبيّة» كان تصريح نائب رئيس المجلس النيابي فريد مكاري بأنّ طرح انتخاب الرئيس من الشعب غير واردٍ، وأنّ الرسالة وصلت إلى العماد عون بهذا السياق.
رسالة مكاري ومعه «14 آذار» وصلت، وكذلك رسالة «التيار الوطني الحر» على ما يبدو، وقد لخّصها الوزير باسيل بكلامٍ وجّهه مباشرة إلى المتحاورين قال فيه «فيكم تكملوا بلانا»، بما يمهّد الطريق أمام خيار مقاطعة «التيار» للحوار بدءاً من جلسته المقبلة، وهو خيارٌ مرجَّحٌ بشدّة وإن لم يُتَّخَذ بشكلٍ رسمي لغاية الساعة، خصوصًا أنّ «الجنرال» كان واضحًا منذ اليوم الأول بأنّه وافق على المشاركة في الحوار بروحيّة انفتاحيّة على الحلول، ولكنّ ما رآه في المقابل كان العكس، بحيث رأى نيات «التفافية» على الحراك الشعبي ومماطلة وتضييعًا للوقت لا أكثر ولا أقلّ، بدليل أنّ المتحاورين يرفضون تجاوز بند رئاسة الجمهورية بأيّ شكلٍ من الأشكال، ولو كان لبحث قانون الانتخاب الذي يمكنه أن يكون مفتاح كلّ الحلول عمليًا.
في كلّ الأحوال، فإنّ اتخاذ «التيار الوطني الحر» لقرارٍ من نوع المقاطعة قد يؤدّي إلى الإطاحة بالحوار ككلّ، تقول المصادر، مستندةً إلى تصريحٍ سابقٍ لرئيس المجلس النيابي نبيه بري قال فيه انّ غياب مكوّنٍ ثانٍ عن الحوار، إضافة إلى «القوات اللبنانية»، سيجعله يعيد النظر بالحوار ككلّ، لأنّه عندئذ يصبح بلا جدوى ولا فاعلية، فكيف إذا كان هذا المكوّن بحجم «التيار الوطني الحر» الذي لا يتردّد كثيرون في اعتبار أنّ كلمة كلّ قوى الثامن من آذار كامنة عنده، علمًا أنّ المصادر تتحدّث عن وساطاتٍ بدأ «حزب الله» يبذلها مع «حليفه»، كون الحزب لا يزال مقتنعًا بأنّ لا بديل عن الحوار في هذه المرحلة، وأنّه يشكّل مصلحة وطنية بامتياز.
وبعيدًا عن حيثيّات قرار عون المشاركة أو المقاطعة، تشير المصادر إلى أنّ جلسة الحوار الثانية كرّست أجواء الجلسة الأولى، رغم حرص بعض المتحاورين على القول أنّها كانت أفضل من الأولى، وإصرار بري على إبداء الإيجابية بالقول أنّ النتائج لا يمكن أن تخرج بجلسةٍ أو اثنتين، ذلك أنّ «العناد» يكون سمة الحوار الأساسي، بحيث يتمسّك كلّ فريقٍ برأيه ولا يقبل الحياد عنه، بل على العكس من ذلك يسعى لإقناع الآخرين بتبنّيه، ما يؤدّي إلى الدوران في حلقةٍ واحدةٍ ومفرغةٍ، وهو ما يؤكّد نظرية أنّ الحوار ليس سوى لتمرير الوقت بانتظار نضوج التسوية الخارجية الإقليميّة وفرضها على اللبنانيين.
وسط كلّ ذلك، الأكيد أنّ جميع الأفرقاء باتوا في جو أنّ الحوار قد لا يدوم طويلاً، وأنّه مهدَّدٌ بالانفجار في أيّ لحظةٍ، خصوصًا بعدما عجز حتى عن تحقيق هدفه بالالتفاف على الحراك الشعبي، فبما يشبه انقلاب السحر على الساحر، تحوّلت كلّ جلسةٍ للحوار إلى «كلمة السرّ» التي تؤدّي إلى غليان الشارع أكثر وانتشار الفوضى والفلتان، الأمر الذي يستحقّ إعادة نظرٍ بالحدّ الأدنى…