IMLebanon

العماد عون: الرئاسة أو «الميثاقية»؟!

في عملية دمج كاملة ما بين فرصة أخيرة لانتخابه رئيساً للجمهورية (بحكم الطبيعة)، واستنفار «الشارع» المسيحي تحت عنوان استعادة «الحقوق» وتطبيق «الميثاقية» الطائفية، يخوض العماد ميشال عون صراعاً معقداً، ومرهقاً بالمعنيين النفسي والسياسي.

زاد في الأمر تعقيداً أن الظرف الإقليمي الذي كان يمارس، أحياناً، دوراً فاعلاً في حلحلة (أو «عربسة») المشاكل اللبنانية مستغرق، بالكامل، في أزمات مفتوحة على احتمالات بينها ما هو شديد السوء والخطورة. ثمّ أن الوضع الداخلي اللبناني، نفسه، لا يتيح للعماد عون والعونيين إحداث تحولات مؤثرة في التوازنات القائمة، وبالتالي، في الحصص والمغانم التي تجري «فصولها» على عينك يا مواطن: لجهة التقاسم والنهب والسرقة والفساد…

لقد استقرت المعادلة الداخلية بعد «الطائف»، كتاريخ وليس فقط كاتفاق، على تراجع النفوذ المسيحي (الماروني أساساً) في معادلة السلطة والإدارة والمغانم… ساهم العماد عون شخصياً في تسهيل حدوث هذا التراجع حين قاوم تسوية «الطائف» فأضعف، من موقعه السياسي، دور المسيحيين عبر الانقسام وحرب «الإلغاء»، ومن موقعه العسكري، دور المؤسسة العسكرية التي انكسرت واحتاجت إلى «إعادة تأهيل» بعد هزيمة مُرّة في مواجهة عمل عسكري مدعوم محلياً وإقليمياً ودولياً. طبعاً لم يكن العماد عون يبني حساباته، في تلك المرحلة، وفق مقاييس ومعايير وطنية عامة، بل كان يبنيها، ولا يزال، نسبياً، وفق معايير خاصة، فئوية ومؤخراً طائفية بشكل شبه حصري. لذلك هو خسر وطنياً وربح طائفياً. بشكل من الأشكال استعاد صورة حليفه آنذاك الشيخ بشير الجميل، فبات رمزاً للتمسك بالامتيازات القديمة. كوفئ على ذلك فيما حصده، بعد عودته من المنفى، عام 2005، من تأييد مسيحي في الانتخابات النيابية قارب ثلثي المقترعين.

طبعاً، اصطدم العماد عون، بعد عودته من المنفى، بواقع سياسي مسيحي ضعيف أو مهمَّش أو مستتبع. اصطدم، ثانياً، بصيغة تقاسم باتت راسخة وفق التوازنات الجديدة التي رعتها الإدارة السورية واستندت إليها في تحكُّمها بكل مفاصل الحياة السياسية والإدارية والأمنية في البلاد (فضلاً عن التعامل مع الصراع الإقليمي وخصوصاً مع العدو الصهيوني). لقد كان تيار عون (الشبان خصوصاً الذين فُصل عدد من أبرزهم مؤخراً) في الشارع للاحتجاج على الإدارة السورية وسياسات حلفائها المحليين. لكنه لم يكن مرحباً به من قبل الآخرين، من حلفائه المفترضين، بسبب نزعته للتفرد والسيطرة في التقرير والتمثيل. حصد، كما ذكرنا، نسبة تقارب ثلثي أصوات المسيحيين، لكنه، رغم ذلك وجد نفسه خارج السلطة والحكومة والقرار والتقاسم…!

دفع ذلك الواقع عون إلى التفتيش عن حلفاء لكسر معادلة العزل هذه. لم يكن ميسراً التعاون سوى مع حزب الله رغم الكلفة السياسية لهذا التعاون. ذلك أن حزب الله، بسبب أولوية المقاومة في برنامجه وعلاقاته، هو أيضاً، زاهد في السلطة والإدارة والمغانم. «مملكته» ليست في لبنان بالدرجة الأولى، بل هو شريك في مشروع ذي استهدافات إقليمية شاملة. توفر للعماد حليف قوي في لبنان والمنطقة، لكنه ضعيف في السلطة والإدارة: إلا ما اتصل بالنواحي الأمنية أساساً. كان ولا يزال التمثيل الداخلي الشيعي معقوداً لحركة أمل وحدها. لم يتغير هذا الأمر حين دخل ممثلو حزب الله الوزارة. هم فعلوا ذلك لسبب سياسي وأمني لا لسبب إداري تحاصصي. التعاون مع حركة أمل وأهمية ذلك بالنسبة إلى استراتيجية حزب الله في لبنان، مكَّنت الرئيس نبيه بري من أن يكون، ليس فقط مستأثراً بالحصة الشيعية، التي باتت راجحة بالمقارنة مع غيرها، بل أن يصبح، الحارس الأول لنظام المحاصصة، وبالتالي لتوازناته المختلة كما ذكرنا: في المشاركة الراجحة على أنقاض الامتيازات المارونية، وفي الممارسة، بفضل الإدارة السورية التي ظل بري رجلها الأول في لبنان طيلة أكثر من عقد من الزمن.

أشرنا إلى بعض المعادلات التي استقرت حوالى 15 سنة، للفت النظر إلى المهمة الصعبة التي يحاول العماد ميشال عون تنفيذها والمتمثلة في استعادة «الحقوق» المسيحية المنقوصة. ثم أن العماد قد ذهب أبعد حين صدَّق شعار «المناصفة» الذي ينادي به الجميع، ودفعه إلى أقصى مداه فيما يشبه السعي الواهم لاستعادة الامتيازات والصلاحيات السابقة لرئاسة الجمهورية والمارونية السياسية. لا يريد الذين استغلوا الضعف والغياب والانقسام في صفوف المسيحيين واستولوا على جزء من حقوقهم (التي هي، في هذه الحالة وكل الحالات المماثلة، مكاسب للزعماء وليس لعامة الناس) التخلي عن «امتيازاتهم» ومكاسبهم الجديدة. تماماً كما لم يتخل الطرف «المسيحي»، سابقاً، إلا بعد حرب أهلية، عن امتيازاته في السلطة والإدارة والقرار. شعار «الرئيس القوي» ليس محبباً، إذاً، أبداً، إلى قلوب الشركاء الآخرين. «المناصفة» مرفوضة عموماً بالنسبة لمن اعتاد أن يأخذ حصته وجزءاً من حصة سواه، ويشارك في توزيع ما تبقى على «أصدقاء» من المسيحيين كانوا يقايضون هذا «الكرم» بتقديم الولاء لصاحب القرار السوري ولحليفه المحلي. «المناصفة» بهذا المعنى، مستحيلة لأنها تحتاج إلى ميزان قوى مختلف لفرضها. لا نناقش هنا هذا المبدأ الذي جرى تناوله وتداوله بشكل خاطئ ومغرض ومشوّه بالاستناد المزوَّر إلى الدستور و«الطائف». ولا نتناول ذلك، هنا أصلاً، استناداً إلى خطأ هذا المبدأ الذي يقوم على الانقسام الطائفي والمذهبي المولِّدين للأزمات والحروب والارتهان للخارج… المسألة، هنا، أن هذا المبدأ، وفق الصيغة الطائفية نفسها، لم يعد «عادلاً»! فكيف يمكن لمن لا يشكل ديموغرافياً إلا ثلث السكان أن يحصل على نصف الحصة؟! لن يحصل ذلك إلَّا بإكراه وبتغيير توازنات. هذان باتا مستحيلين إلا بأثمان ومغامرات مخيفة!

يدرك عون بعض هذه الصعوبات وأسبابها. لكنه يستعين عليها بالعناد والتأجيل وطول النفس… قلنا يدرك بعض هذه الصعوبات لأنه اتجه إلى تقديم تنازلات كبيرة لتذليل عقد، بدت، رغم ما بذله، صغيرة وغير مؤثرة قياساً على سواها. الاشتراطات الأساسية الموجودة في «سلَّة» بري أو سواه، المعلنة وغير المعلنة، ستجعل الرئيس القوي، رئيساً ضعيفاً بكل المقاييس… يعزز من حذر الآخرين أن تجربة معظم ممثلي الجنرال في السلطة والحكومات قد اتسمت بكثير من الفئوية و«الفجعنة».

بالتأكيد، لن تنفع التهديدات بالنزول إلى الشارع، ولا بالفدرلة أو بالتقسيم. ليس مجمعاً على مثل هذه الخيارات في الوسط المسيحي، بما في ذلك لدى جزء يؤيد شعارات العماد عون أو يتعاطف معه ومعها. تأييد مطالب يمكن تحقيقها، كلياً أو جزئياً، بالوسائل السياسية، يختلف كلياً عندما تُطرح من أجل تحقيقها خيارات أو انعطافات دراماتيكية في أساليبها كوارثية في نتائجها.

لا ندري ما إذا كان الجنرال عون يستطيع إعادة النظر في حساباته وشعاراته، أي أن يتبنى خطاً وطنياً لا طائفياً. الخطاب الطائفي، خصوصاً من موقع المسؤولية والسلطة والشرعية (إذا وصل عون)، ليس فقط لن يؤمن «حقوق» المسيحيين، بل هو سيذهب باستقرار البلد وبأمن كل اللبنانيين دون استثناء.

ليس بسوى نظام مواطنة مدني وديمقراطي، يمكن إنقاذ لبنان والمسيحيين جميعاً.