لم يكن كلام الرئيس سعد الحريري عن مهلة أسبوع أو 10 أيام لولادة الحكومة مجرّد محاولة لضخّ أجواء التفاؤل في المناخ اللبناني الشديد القلق والتوتر والتشاؤم، بل إنّ هناك مبرّرات طارئة لا يمكن تجاوزها، لدى الحريري ورئيس الجمهورية، تستدعي ولادة الحكومة خلال أيام، و«بأي ثمن»، وفي الحدّ الأقصى قبل منتصف تشرين الثاني المقبل.
بات المعنيون جميعاً على اقتناع بأنّ زمن المماطلة والمناورة قد انتهى، وأنّ الأزمة باتت أكبر من الجميع، وأنّ المعالجة لم تعد تتحمّل الانتظار، ولو أياماً أو أسابيع قليلة، خصوصاً على المستوى الإقتصادي، في ظل التقارير التي يتلقّاها رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف وسائر القوى السياسية، وتُنذر بانزلاق البلد نحو هاوية خطرة.
قبل انتهاء أيلول، توافق الحريري ورئيس الجمهورية على تأليف الحكومة سريعاً، لتأخذ على عاتقها إطلاق ورشة الإنقاذ. ولذلك، عندما حدَّد الرئيس المكلّف مهلة أسبوع أو 10 أيام لإنجاز هذه المهمّة، كان ينطلق من المعطيات التي يملكها، والتي تؤكّد أنّ عون سيبذل أقصى جهدٍ لتسهيل ولادة الحكومة في أقرب ما يمكن.
ويحدِّد المطّلعون سلسلة مبرّرات حاسمة، وبعضها مصيري للعهد وللبلد، تدفع برئيس الجمهورية خصوصاً إلى هذا الاستعجال، وهي:
1- بلوغ الوضع الإقتصادي حالاً من الاهتراء غير المسبوق، وسط تراجع خطر في كل المؤشرات والأرقام. وإذا لم تتوافر المرجعية القادرة سريعاً على إطلاق ورشة الإصلاح وملاقاة مؤتمر «سيدر» ومتطلبات المؤسسات الدولية، فإن المخاطر التي تنتظر لبنان يصعب تقديرها.
وسقوط البلد يعني سقوط العهد ومعه الجميع وكل شيء. وهذا المعطى البالغ الدقّة هو الأساسي في الاندفاع نحو تأليف حكومة جديدة، لأنه يختصر كل المخاطر الأخرى.
2- مع مطلع تشرين الثاني، يبدأ «حزب الله» مواجهة «الجيل الجديد» من العقوبات الأميركية. وطبعاً يريد «الحزب» من حليفه في الحكم أن يسارع إلى تشكيل المظلة الواقية له في الداخل اللبناني.
3- إستتباعاً، هناك استحقاقات يحمل بعضها الطابع الرمزي أو المعنوي وتستدعي وجود حكومة فاعلة ورئيساً للحكومة كامل المواصفات الدستورية. ومن ذلك مثلاً أنّ، رئيس الجمهورية كان يفضّل لو يستطيع المشاركة في القمّة الفرنكوفونية في أرمينيا مدعوماً بحكومة فاعلة، ما يوحي بالثقة للمجتمع الدولي بقدرة لبنان على تجاوز المحنة التي تعصف به. لكن الوقت دهم الجميع.
وكذلك، هو سيحاول إيجاد مخرج من مأزق الحكومة قبل 30 تشرين الأول الجاري، العيد الثاني للعهد، إذ ليس مناسباً إنطلاق عون في السنة الثالثة من ولايته بلا حكومة فاعلة.
لكنّ الإستحقاق الرمزي الأهم هو عيد الإستقلال الآتي، في 22 تشرين الثاني المقبل، وهو الثالث في عهد الرئيس ميشال عون. فالوضع لم يكن «طبيعياً» في موقع رئاسة الحكومة خلال أي من العيدين السابقين، وقد لا يكون «طبيعياً» في العيد الآتي، مع أنّ الرجل – وهو قائد سابق للجيش- معني بهذا العيد بامتياز، ويريد أن يكون العرض العسكري كامل المواصفات البروتوكولية.
ففي 22 تشرين الثاني 2016، بعد 3 أسابيع على انتخابه، ترأس عون عرض الاستقلال بمشاركة رئيس المجلس النيابي نبيه بري، وشارك فيه الرئيس تمام سلام كرئيسٍ لحكومة تصريف الأعمال، إذ لم تكن قد تمّت تسمية الحريري لتولّي رئاسة الحكومة الجديدة.
وفي العام التالي، شارك الحريري في عرض الإستقلال «شبه مستقيل»، على أثر أزمة 4 تشرين الثاني، وكان عائداً للتوّ إلى بيروت. وقبيل العرض العسكري، بحث الحريري مع رئيس الجمهورية في القرار الذي سيتخذه: الإعتكاف أو الإستقالة أو العودة إلى ممارسة الأعمال في شكل طبيعي، ولم يعلن موقفه إلاّ في وقت لاحق.
وهذه السنة، يقترب عيد الإستقلال في ظل حكومة مستقيلة. ولا يريد رئيس الجمهورية أن يشارك الحريري في العرض العسكري، مرّة أخرى، بصفته رئيساً لحكومة تصريف أعمال. فتكرار هذه الصورة، للمرّة الثالثة على التوالي، من شأنه تظهير صورة السلطة التنفيذية في عهد عون وكأنها في حال الشلل، ما يعني أنّ العهد كلّه مشلول.
4- لبنان على موعد مع القمّة الإقتصادية العربية الرابعة المقرر عقدها في بيروت، في 19 و20 كانون الثاني 2019. ويهتم وزير الخارجية جبران باسيل بتسليم الدعوات إلى الرؤساء والملوك والأمراء العرب المشاركين. ويعوِّل لبنان كثيراً على ما يمكن أن تحمله هذه القمّة من دعم لاقتصاده في أحلك الظروف. وبالتأكيد، لا يمكن أن يتوقّع لبنان أي جدوى من القمّة إذا بقي في حال الفراغ الحكومي.
إذاً، الرغبة موجودة لدى عون وغالبية القوى السياسية باستيلاد الحكومة سريعاً، تحت ضغط الاستحقاقات. ولكن، لا يبدو أحد قادراً على حسم خياراته جدّياً وعملياً بغية تسهيل هذه المهمة وتجنّب الكارثة المُحدقة حتماً بالبلد، من خلال «حكومة طوارئ» تتبنى «برنامج طوارئ». وهذا ما يطرح السؤال الآتي:
هل القوى الداخلية قادرة فعلاً على اتخاذ قرار الحلّ والربط في ملف الحكومة أم هي تنتظر الإشارات الخارجية؟ وإذا كانت قادرة على اتخاذ القرار فلماذا تبدو الأزمة الحكومية مفتوحة وهي في شهرها الخامس بلا أفق للحل؟
المتابعون يخشون أنّ القوى اللبنانية «لا تمون» على قرارها. فلو كانت أزمة التأليف محصورة بالتفاصيل التقنية، أي بالتنازع على عدد الحصص ونوعية الحقائب، لكان ممكناً حلّها خلال أيام أو أسابيع. لكنّ التعقيدات توحي أنّ الأزمة ليست سوى ترجمة لـ«الكباش» الإقليمي- الدولي على القرار في لبنان وسائر الشرق الأوسط.
ولذلك، تزداد المخاوف من وقوع الإستقرار اللبناني ضحية في النزاع الدولي – الإقليمي. وفي هذه الحال، سيغرق الجميع لأنهم في مركبٍ واحد، ولا فرار لأحد إلى أي مكان آخر. وليس مضموناً أنّ القوى التي تقف اليوم وراء الأزمة ستتدخّل لانتشال الضحايا.