حرص رئيس مجلس النواب نبيه بري، دائماً، على عدم الإخلال بالميثاقية تحت قبة البرلمان. ففي جلسات التشريع، أرضى القوى المسيحية لإشراكها. وفي جلسة انتخاب الرئيس ميشال عون لم يشأ التعطيل. لذلك، يسأل بعض القريبين من رئيس المجلس: كيف لعون أن يردّ على بري خارج الضوابط الميثاقية، بتأليف حكومة أمرٍ واقع، لا تُرضي مكوِّناً أساسياً هو الطائفة الشيعية؟
كلّ القوى السياسية تتصرَّف بذهنية أنّ «الكباش» الجاري حالياً لا يتعلّق بالحكومة فحسب، بل إنّ نتائجه ستنسحب على كلّ توازنات القوى في العهد الجديد.
أي إنها ستقرّر لمَن سيكون القرار:
1- عون يراهن على إطلالة قوية. فإثبات حضوره، منذ اللحظة الأولى، حيوي لاستعادة ما خسرته الرئاسة نصاً وعِرفاً، ولرسم الحدود بينه وبين الجميع طوال ست سنوات. وهو يريد أن يبرهن للجميع، بمَن فيهم «القوات اللبنانية»، أنه ليس رئيساً ضعيفاً، وأنّ ما كان يعلنه في شأن «الرئيس القوي» ليس مجرّد كلام.
2- الرئيس المُكلّف سعد الحريري يرغب في الإفادة من التقارب المستجد بينه وبين عون لتقوية موقعه في رئاسة الحكومة، من دون أن يخسر الرصيد القديم الذي يمتلكه لدى رئيس المجلس.
3- بري يراهن على أنّ عون، في النهاية، لن يغرِّد بعيداً خارج السياقات المعهودة، وأنه تدريجاً سيعتاد على نمطية التعاطي القائمة بين مؤسسات الحكم بعد «إتفاق الطائف».
وإن لم يكن عون مرشح بري لرئاسة الجمهورية، فرئيس المجلس يطمئن إلى أنّ عون جاء بتغطية شريكه في «الثنائي»، أي «حزب الله». وهذا العامل سيبقى ضامناً لتوازن العلاقة معه طوال العهد.
إذاً، وفق هذه اللوحة، يصعِّد الجميع إلى الحدّ الممكن، كلّ لتحقيق هدفه. فالأمر يستأهل التصعيد. لذلك، يبدو الخلاف على الحصص والحقائب والأسماء في الحكومة العتيدة تفصيلاً، بل هامشياً، فيما الخلاف الأساسي هو: مَن سيكون الأقوى في السلطة خلال السنوات الست المقبلة؟
وبناءً على ذلك، تبدو عقدة تمثيل «القوات اللبنانية» في الحكومة العتيدة جزءاً من النزاع الحقيقي الدائر بين منطقين سياسيَّين متنازِعين على أبواب العهد الجديد. وكذلك عقدة تسمية رئيس الجمهورية لوزير شيعي.
وأما عقدة الحقيبة الوزارية الخاصة بـ»المردة» فهي على الأرجح عنوان للمساومات المتبادلة حول عُقَد أخرى. وعندما تُذلَّل هذه العُقد، يصبح سهلاً حلُّ عقدة «المردة»، لأنّ أحداً لا يعترض على تمثيلها بوزارة من حجم «التربية» أو «الثقافة».
ولكن، السؤال الأساسي هو: مَن سيقول «آخ» أولاً في لعبة عضّ الأصابع؟
في تقدير المتابعين أنّ بري لا يخسر شيئاً من إطالة أمد الأزمة. فالعهد وحكومته هما اللذان يراهنان على الانطلاقة السريعة والقوية. وعلى العكس، إنّ تعثّرهما يرسل إشارات لمصلحة رئيس المجلس. ومن هنا عدم رغبة بري في الاستعجال وإحراق المراحل. ففي النهاية، على الآخرين أن يسهّلوا الأمور لتنطلق ماكينة العهد.
لكنّ عون يبدو أمام استحقاق حسّاس. فهو مُحاصَر بخيارَين صعبَين:
– أن يواصل انتظار المساومات لتأليف الحكومة مهما طال الزمن، وهذا ما يؤدّي إلى احتراق العهد منذ بدايته، لا بتعثّر ولادة الحكومة فحسب، بل بسقوط الفرص لقانون انتخاب جديد ولانتخابات في موعدها.
– أن يذهب مع رئيس الحكومة إلى الخيار الأقصى، ويعلنا «حكومة أمر واقع» تنتهي على الأرجح بإفراغها من تمثيلها الشيعي، فتسقط ميثاقياً. وهنا تكون العواقب وخيمة على العهد والبلد عموماً.
في الدرجة الأولى، قد يحاذر رئيس الجمهورية أن يذهب إلى خيارات صدامية في مطلع عهده، خصوصاً أنّ صدامه لن يكون مع قطب واحد من «الثنائي الشيعي» هو بري، بل أيضاً مع «حزب الله» الذي يلتزم الصمت المطبق، لكنه يفوّض الى بري تماماً أن يتّخذ القرارات المناسبة في المسائل الداخلية.
فعون ليس في وارد المغامرة بعلاقته مع «حزب الله» أيّاً كانت الظروف. و«الحزب» يبادله هذا التوجُّه. ويعرف عون أيضاً أنّ قيام تحالف مسيحي- سنّي، لا يراعي حساسيات المكوِّن الشيعي، قد يقود البلد إلى مأزق غير محسوب النتائج. وعلى الأرجح، إنّ الحريري هو أيضاً شديد الحساسية على هذه المسألة لما لها من تردّدات مذهبية.
مشكلة عون والحريري أنّ لعبة الوقت الجارية حالياً تؤذيهما، ولكنها لا تؤذي بري. فالنزاع يدور على أرضهما لا على أرض رئيس المجلس الذي يمكنه الانتظار حتى حلحلة العقد، وعودة الجميع إلى المنطق الذي ساد العلاقات داخل تركيبة الحكم حتى اليوم.
كيف سيواجه عون والحريري هذا التحدّي؟
هناك سيناريوهات عدة يتداولها العالمون، لكنّ أحداً منهم لا يتوقع الذهاب إلى خيار صدامي يتّخذ طابعاً طائفياً – مذهبياً، من نوع تشكيل حكومة أمر واقع لا تراعي ممثلي طائفة بكاملها، ولو كان الدستور يسمح بها. على الأرجح، لن يفعلها عون، ولا الحريري!