انتخب اللواء فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية في صيف 1958 بتوافق إقليمي ودولي. كان الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور قد أوفد الى لبنان، بعد إنزاله قوة من المارينز في 17 تموز الى ضواحي بيروت، السفير روبرت مورفي لاستكشاف ما الذي يحصل فيه عقب الانقلاب في 14 تموز على النظام الملكي العراقي، (المتحالف مع الغرب).
جال مورفي على القيادات اللبنانية سائلًا عن كيفية إنهاء حوادث (ثورة) 1958 وإحلال الاستقرار والطمأنينة في لبنان. التقى مورفي بدءاً رئيس الجمهورية كميل شمعون الذي اقترح (كما ورد في مذكرات مورفي) لتحقيق الهدفين، انتخاب خصمه، قائد الجيش يومذاك، اللواء فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية. ومن المعلوم أن شهاب كان مرشح المعارضة التي قادت «الثورة» على الرئيس شمعون.
طار مورفي الى القاهرة بعدما التقى معظم القيادات السياسية والروحية في لبنان، واتفق مع رئيس الجمهورية العربية المتحدة (مصر وسوريا)، جمال عبد الناصر، على انتخاب فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية.
شهد لبنان بعد ذلك عشر سنوات (1958 – 1968) من الاستقرار الأمني والازدهار الاقتصادي، عرفت بـ «عصر لبنان الذهبي». في تلك الفترة حصلت في لبنان نقلة نوعية تواصل فيها داخليا مع التقدم العالمي ووصلت الكهرباء والمياه والهاتف والمدارس والطرق والمستشفيات الى معظم البلدات والقرى اللبنانية، كما ازدهرت حركة الطيران وأصبح لبنان نقطة وصل بين الشرق والغرب، وفعلياً ملتقى الحضارات والثقافات والمنتديات وحتى الاستخبارات الإقليمية والدولية.
الاستقرار الكلي الذي نعم به لبنان أتى من اتّباعه سياسة خارجية حكيمة ارتكزت على قاعدة «لبنان مع العرب اذا اتفقوا وعلى الحياد اذا اختلفوا». في الواقع، كان العهد الشهابي ميالاً الى الناصرية، لكن قرارته اتّبعت مبدأ تحييد لبنان عن الخلافات العربية. النجاح في تنفيذ سياسة خارجية حكيمة أفرز الاستقرار الداخلي والنقلة الإنمائية النوعية.
الوضع السياسي في المنطقة لم يكن أحسن حالاً مما هو راهناً. انتقلت سوريا مثلا من الوحدة الى الانفصال (1961) وصولا الى حكم حزب البعث عام 1963، والعراق شهد سقوط الملكية وقيام حكم شيوعي (1958) ثم ناصري (1963) فبعثي (1968)، واليمن انقلبت على الملكية وأرسلت مصر قوات لحماية الجمهورية (1962)، بينما ساندت السعودية القوى الملكية. في الاْردن جرت محاولات انقلابية عدة الى أن اتخذت منظمة التحرير الفلسطينية بعد حرب 1967 من غور الاْردن قاعدة شن هجماتها الفدائية على إسرائيل.
غاب عن لبنان الاستقرار السياسي والأمني بعد العام 1968. فالسنوات التي تلت حتى العام 1975، اتصفت بعدم الاستقرار الأمني والسياسي، تبعته حرب دموية هدامة، بما فيها تدخل سوري واجتياح إسرائيلي، دامت خمسة عشر عاما، وانتهت بفرض وصاية سورية على كل لبنان، بتكليف إقليمي ودولي، دامت ايضا عقداً ونصف عقد من الزمن، وأعطت لبنان استقراراً أمنياً وبحبوحة اقتصادية وإقصاءات سياسية أضعفت مساهمة المكوّن المسيحي في الشراكة الوطنية.
الفترة الزمنية التي تلت نهاية الوصاية السورية من العام 2005 الى حين انتخاب الرئيس ميشال عون، تتصف ايضا بعدم الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي. اتجاه الأحوال قبل انتخاب الرئيس عون كان تدهوراً في كل المجالات وانحداراً نحو المجهول.
لبنان اليوم مع عهد الرئيس عون أمام فرصة مماثلة للستينيات. القوى الإقليمية والدولية تريد من اللبنانيين أن ينجزوا استقراراً دائماً يعطيهم الأمان والازدهار. لذلك، أمام القيادات اللبنانية فرصة ذهبية تعطي اللبنانيين إمكان تحقيق ست سنوات من الاستقرار السياسي والأمني والسياسي والازدهار الاقتصادي.
بدأت ملامح الاستقرار من باب السياسة الخارجية. زيارة الوزير السعودي التي سبقت الانتخابات الرئاسية، وزيارة التهنئة للوزير الإيراني، إشارتان واضحتان، وإن متنافستين، الى تأييد سياسة الرئيس ميشال عون السيادية الداعية الى تجنيب لبنان الصراعات العربية والإسلامية ودعمها.
كذلك، فإن تحرك سفراء الدول الأوروبية والولايات المتحدة وروسيا في بيروت، بالإضافة الى نشاط مسؤولي الأمم المتحدة، وإعلانهم جميعاً عن ارتياحهم الى انتخاب رئيس للجمهورية وتصميمهم على العمل مع الحكومة العتيدة لدعم لبنان في حربه على الإرهاب، ومعالجة أزمة النازحين السوريين، بالإضافة الى مساعدة لبنان في تنمية جهوده للالتحاق بركب التقدم العالمي في قطاعات الاتصالات والطاقة الشمسية والبيئة والتربية وغيرها.. يمكن إدراجها كلها في هذا السياق.
الدول المعنية كلها تقول لنا إننا مسؤولون عن مستقبل بلدنا وأمنه وازدهاره وسلامة شعبه وعيشهم وراحة بالهم.
المطلوب من القيادات اللبنانية، إذاً، أن تعمل معاً بجهد وأمانة ووطنية وعقلانية ليستفيد اللبنانيون من هذا المناخ الإقليمي والدولي الذي يرافق انتخاب الرئيس ميشال عون. المطلوب منهم عدم إضاعة فرصة النهوض بلبنان الى المرتبة الدولية التي وصل اليها في عقد الاستقرار والازدهار:
■ اولاً، على القيادات السياسية اللبنانية أن تحقق الشراكة الكاملة بين المكوّنات اللبنانية بالاتفاق على حكومة الوحدة الوطنية، وعلى قانون انتخاب جديد وعصري للبنان التعددي. بكلام آخر، لبنان في حاجة الى حكومة ومجلس نواب جديدين يكفلان عودة كل المكوّنات اللبنانية الى العمل بإيجابية نحو لبنان الغد.
■ ثانيا، سئم اللبنانيون دفع فواتير عدة للحصول على الكهرباء والماء، وحان الوقت لتأمين هاتين الحاجتين الأساسيتين لهم في المناطق اللبنانية كلها ومن دون انقطاع.
■ ثالثا، حان الوقت ايضا لتوفير خدمات «الإنترنت» السريعة بأسعار معقولة. الاتصالات الالكترونية أصبحت حاجة ماسة لمعظم المواطنين وأصحاب الأعمال والمؤسسات الحكومية والتجارية والإعلامية والاجتماعية وحتى الدينية. لن يعود لبنان الى سابق عهده كمركز عالمي من دون توفير متطلبات الانترنت.
■ رابعا، البيئة هي حتماً من الضروريات الأساسية. النفايات وما نتج منها من أمراض وحشرات، والتدخين في المطاعم والمكاتب وتأثيره السلبي على صحة المواطن رغم وجود قانون يمنع ذلك، والمقالع والكسارات والمرامل المسيئة لجمال لبنان، وانعدام تنظيم السير الذي أدى الى ارتفاع كبير في عدد الضحايا يفوق تلك من الأمراض المستعصية والمزمنة.
يبدو واضحا أن يد المساعدة الإقليمية والدولية ستمتد لمساعدتنا في تحقيق كل ذلك وأكثر. المهم أن يتّعظ قادة لبنان المعنيون فتتغير طرق عملهم ويمضون فيها بعضهم مع بعض ومع اللبنانيين جميعاً.
السؤال: هل نحن على استعداد لاغتنام الفرصة؟