Site icon IMLebanon

العونية كالترمبية جزء من حركة الحشود الشعبوية

 

«أيها الناس: لقد أصبحت سلطاناً عليكم فاكسروا أصنامكم بعد ضلال، واعبدوني…

إنني لا أتجلى دائماً… فاجلسوا فوق رصيف الصبر، حتى تبصروني

اتركوا أطفالكم من غير خبز واتركوا نسوانكم من غير بعل … واتبعوني

احمدوا الله على نعمته فلقد أرسلني كي أكتب التاريخ، والتاريخ لا يُكتب دوني

إنني يوسف فى الحسن ولم يخلق الخالق شعراً ذهبياً مثل شعري

وجبيناً نبوياً كجبيني وعيوني غابة من شجر الزيتون واللوز

فصلّوا دائماً كي يحفظ الله عيوني».

عن القائد الملهم. محمود درويش

منذ أربع سنوات، كنت في زيارة لمدينة هيوستن الأمريكية، وهي أحد معاقل الجمهوريين، إجتمعت مع صديق مهندس من أصول لبنانية، كان قد حقق نجاحًا أسطوريًا في قطاع بناء وتجهيز المستشفيات الكبرى. صديقي هذا من المقرّبين لدونالد ترامب، كما أنّه من المساهمين الكبار في حملاته الانتخابية. كانت في تلك الأيام قد بدأت حملة الديموقراطيين لإسقاط ترامب. من خلال النقاش، أسرّ لي صديقي بأنّ أي احتمال لخروج ترامب من الحكم سيؤدي حتمًا إلى شغب واسع النطاق في الولايات المتحدة الأمريكية، قد يهدّد بانهيار البلاد. شرح لي بعدها، أنّ نوعية أتباع ترامب وطريقة تحشيدهم تؤكّدان أنّ اللجوء إلى العنف هو الحل الوحيد عندهم، لأنّ قدراتهم على الدفاع بالمنطق عن خياراتهم محدودة، حتى وإن كانوا على حق. ثم أضاف، عندها لن يبقى عند هذه الحشود غير إثارة القدر الأكبر من الفوضى عند الخروج، حتى لو أدّى ذلك إلى دمار المؤسسة على رؤوسهم، أي على طريقة «عليّ وعلى أعدائي». تأكّدت هذه الرؤيا بشكل فاضح عند خسارة ترامب الانتخابات، وقيام حشوده الشعبية و»حرسه القديم» بالهجوم وتخريب أحد أهم حصون الديموقراطية في تلة الكابيتول.

 

نقلني هذا الكلام إلى طرح عمره قرنين في كتاب عنوانه «الحشود» كتبه «غوستاف لوبون». عُرف لاحقًا أنّ «موسوليني» كان يحفظ طروحات هذا الكتاب عن ظهر قلب. وضع لوبون أطروحته في أواخر القرن الثامن عشر، عند سقوط منطق الحق الإلهي بالحكم، فسقطت معه كل الاعتقادات القديمة العهد وصارت تسير في أوروبا نحو الزوال، آخذة معها معظم الثوابت الاجتماعية. هنا بدأت تظهر قوة الحشود التي لا يمكن مضاهاتها بأية قوة أخرى، فكرية أم ماورائية. استنتج السياسيون بعدها أنّ العصر القادم هو عصر الحشود، حيث لا حاجة للنخب لبحث الأفكار والمسارات الفضلى لقيادة المجتمعات، بل يكفي توجيه الحشود وتركها لتدير الأمور. بهذه الطريقة يمكن تبسيط السياسة وإخراجها من يد المفكرين لوضعها في يد الحشود. إعتبر لوبون أنّ هناك رابطاً نفسياً ينشأ داخل الحشود، بحيث يفقد الفرد إرادته على الفعل، أو حتى التفكير، ليستسلم لإرادة الحشود التي تصبح مثل التنويم المغناطيسي. هنا يدخل دور الشخصية الكاريزمية التي تقود الحشود حسب هواها، لتصبح أداة طيّعة لخدمة شخصية واحدة، ليست بالضرورة الأكثر خبرة أو فهماً أو حكمة، ولكنها تتولّى القيادة وتصبح مصدر الإلهام للحشود. لا يحتاج القائد هنا إلى طرح أي شيء معقّد أو منطقي، بل فقط إسماع الحشود ما يطربها ويجعلها تعيش في نشوة عارمة، فتنقاد من دون تفكير وراء من يدعم هذا الإحساس بالنشوة، وهو يطرب بارتدادات الفعل والهتافات مثل «لبيك فلان» أو «بالروح وبالدم نفديك». هنا يصبح كل من يحاول علاج حالة الجنون الجماعي بالمنطق والطرح المستند إلى التحليل والعلم، عدوًا وخائنًا للحشود لكونه يسقط عنهم، وهم المدمنون، احتمال النشوة مرة أخرى.

 

من هنا، فإنّ قائد الحشود عليه أن يعفي المحتشدين من الشروحات المعقّدة، وأن يحصر التخاطب بجمل مبسطة وشعارات جذابة وبعض النكات المحببة وبناء أسطورة جماعية تتناسب مع اللحظة والتاريخ، والأهم هو تحديد من هم الأعداء وتحفيز الحشود على مواجهتهم «بكل وسيلة وبحزم». ومن هذه الأفكار جرى تضييع قيمة الفرد، وبالتالي تعظيم قيمة «الجماهير» المحتشدة حول أسطورة موحّدة. يفترض الكثيرون من الباحثين الحياديين، بأنّ هذا التوجّه أصبح دأب الحركات السياسية منذ بدايات القرن التاسع عشر، وبغض النظر عن الفلسفات والأفكار التي أسست لتلك الحركات، فإنّ الحشود كانت دائمًا غافلة أو غير مهتمة بالفكر والفلسفة، لكنها كانت دائمًا محتشدة وراء الشعارات والكلمات المفاتيح، كما هي وراء القائد الذي يجسّد بشخصه النشوة التي تعمّ الجماهير عند احتشادها. والشرح يطول ويتشعب، لكن اليسار واليمين، والمحافظون وبعض الليبراليين، والشيوعيين والفاشيين، كلهم استندوا إلى الحشود لتحقيق أهدافهم. لذلك، لم أعد أستغرب أنّ معظم الذين انتموا على أيامي إلى أحزاب يسارية ماركسية، لم يحاولوا حتى فهم كتب تلك الأحزاب المقدسة، ككتاب رأس المال مثلًا، وأشك أنّ الليبراليين بالمجمل يعرفون فلسفة «جون لوك» حول التسامح مع حقوق الأفراد، أو فكر «أدام سميث» حول كيف تنمو ثروات الشعوب!

 

ما دخل كل هذا بالحشود العونية؟ يكفي أن نراجع ببساطة مسار العماد عون، منذ أيام الحكومة العسكرية وقصر الشعب، إلى أيام الغربة الباريسية، وصولًا إلى عصر التسونامي ومن ثم الدخول المظفر إلى بعبدا، والخروج المهزوم من بعبدا إلى الرابية، لنفهم المقصود. فبمراجعة حيادية لهذا المسار يمكن تصنيف هذا المسار إلاّ كجزء لا يتجزأ من الحركة الشعبوية المستندة إلى الحشود المأخوذة بالنشوة، والتي فقد أفرادها القدرة على التفكير إلّا من خلال الحشود، حتى وإن تخطّت الأعمال كل ما يمكن أن يقوم به كل فرد على حدة. وإن نظرنا إلى قادة عدة مروا على مدى القرنين الماضيين، من يسار ويمين، للاحظنا أنّ المسار والمنطق واحد، والعماد ميشال عون ليس إلّا أحد الأمثلة، وإن كان ليس أهمها، في هذا المسار المدمّر للفكر وللعقل.

 

ما حصل منذ أيام في حصن من حصون الديموقراطية، أي محطة تلفزيونية، لم يكن حادثًا معزولًا، بل هو نهج وعد به جماعة تياره في لحظة الخروج من الحكم مرغمين بعد فشل مشروع التوريث في الرئاسة، لكن الحشد الشعبي للحرس القديم باقٍ وراء الوريث ليحدث المزيد من الضوضاء. وليس غريبًا أيضًا الفوضى الدستورية التي تركها ميشال عون وراءه بشغور سدّة الرئاسة وحكومة تصريف أعمال، فالانتظام العام يفقده القدرة على التحكّم بالحشود، والفوضى وتدهور الأوضاع هما السبيل لعودته إلى قيادة الحشود، أو بلسان حال الثنائي عون-باسيل «من بعدنا فليأتِ الطوفان».