في كل قراءته للتطورات الاقليمية، بدا رئيس الحكومة السابق سعد الحريري في اطلالته الأخيرة، من مناصري مدرسة التعامل بواقعية مع الأحداث المحيطة. لا يحبّذ الرهانات الانتحارية ولا يعيش في فقاعة من الأوهام. ولهذا قرر القيام بقفزة استباقية تضعه مسبقاً على سكة تفاهمات كبيرة قد تعيد توزيع مواقع النفوذ في المنطقة، ويخشى أن يكون خارجها. بهذه الروحية يصنّف بعض المتفائلين اندفاعة الحريري المفاجئة نحو السراي الحكومي بعد نحو سنة من الانكفاء والممانعة، خشية من الوقوف على الجبهة الأمامية التي كانت عرضة للضرب المبرح من جانب “ثوار 17 تشرين الأول”، ومن يدور في فلكهم ومن تسلل إلى صفوفهم ومن حاول استغلال حراكهم…
وفق هؤلاء، كان بإمكان رئيس “تيار المستقبل” أن يسمّي “مصطفى أديب ثانياً” ويتركه يروح ويجيء ويتلقى الصدمات من دون أن يتمكن من تأليف حكومة، لكنه فضّل إمساك زمام الأمور وأخذ المهمة بصدره بكل ما تحتمل من تحديات صعبة وقاسية. وهنا، بيت القصيد. هذه الجولة لا تشبه سابقاتها، وقد لا تصاب بالأعراض نفسها، حيث يفترض منطقياً أنّ الحريري التقط الفرصة الأخيرة كما وصفها، ليبني عليها. ولعل هذا ما يفسّر الايجابية التي اتسم بها لقاؤه مع رئيس مجلس النواب نبيه بري، ولو أنّ المحيطين ببري يؤكدون أنّ المشاورات لم تلامس حدود التفاصيل وبقيت في العموميات ولكن ضمن مناخ استعداد الرجلين للتعاون. وهذا بحدّ ذاته خطوة للأمام. ومع ذلك، لا يزال مسعى الحريري عرضة للانتكاسة وقد لا يتمكن رئيس الحكومة السابق من إكمال مشوار التأليف فيعود أدراجه قبل أن يكلّف حتى. يشير بعض المواكبين إلى أنّ “حزب الله” لن يمنح رئيس “تيار المستقبل” امتياز التكليف اذا لم يتوصل الفريقان إلى تفاهم شامل يبدأ بحقيبة المال ولا ينتهي بمهمة الحكومة وبجدول أعمالها. وهذه أجندة متخمة بالألغام والعراقيل التي قد تحول دون اكتمال عناصر نجاح المبادرة.
واذا افترضنا أنّ الحريري يعرف جيداً كيف يدوّر الزوايا مع الثنائي الشيعي ويتفاهم معهما على الأسماء من دون ضجيــج أو ضوضاء تخرّب عليه مسعاه أمام جمهوره، فالعقدة لا تزال في خشبة رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل. هذا، اذا سلّمنا جدلاً أنّ الاشتباك المستجد مع رئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط سلك طريقه إلى المعالجة، وهو احتمال ضعيف جداً. فالحريري ليس من طينة الذين يسارعون إلى تجاوز ما يعتبرها إساءات بحقه، ولا وليد جنبلاط يسمح “بأن يُعامل هكذا”، كما قال في مقابلته الأخيرة. فعلياً، كان من الممكن للزعيم الدرزي أن يتجاوز فشة الخلق التي عبّر عنها الحريري حين وصف الاتصال الأخير بينهما بأنه كان ساخناً، ويذهب إلى تسميته رئيساً للحكومة حفاظاً على العلاقة وتحصيناً للمبادرة الفرنسية، من دون صبّ الزيت على النار. أقله، هذا ما انتهى اليه الاجتماع الذي عقده جنبلاط يوم الأحد الماضي مع فريقه النيابي والحزبي، لكن حين علم أن “كتلة المستقبل” تطلب موعداً للوقوف عند رأيه أسوة ببقية الكتل النيابية، على عكس المعاملة المميزة التي لاقاها كل من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب رغم رتل الخلافات التي كانت تبعد بين بعبدا وبيت الوسط، قرر البيك رفع سقف الاشتباك مع الحريري، ومعه سقف تحديات التأليف…
مع أنّ صيغة الوفد النيابي الجوّال، تستهدف كلاّ من رئيس “القوات اللبنانية” سمير جعجع ورئيس “التيار الوطنــي الحر”، لأنّ رئـيس الحكومـــة السابق يتجنّب لقاءهما المباشر، أقله في هذه اللحظــات بالذات.
بالعودة إلى معضلة موقف “التيار الوطني الحر” من تكليف الحريري. على هذه الضفّة، ثمة تخبّط واضح: لا يملك العهد ترف الوقت ولا ترف الفرص، وهذا ما قصده الحريري حين وصفها بالفرصة الأخيرة التي تسبق الانهيار الشامل، ولذا تسرب جو ايجابي من القصر يقضي بإسقاط الموقف السلبي المسبق من تكليف الحريري.
في الموازاة، لا يتردد بعض النواب في الإشارة إلى أنّه لا موانع لديهم من تسمية الحريري. في المقابل، يتصرف جبران باسيل وكأنّ تسمية رئيس “تيار المستقبل” هي من سابع المستحيلات التي لن يقدم عليها، مع أنّ المطلعين على بعض تفاصيل تأليف الوفد الذي سيتولى مفاوضات ترسيم الحدود، يعرفون جيداً أنّ باسيل لم يعد في أفضل حالاته، وقد يكون ما يحصل راهناً من رفع سقوف، هو من باب تحسين الموقع التفاوضي ازاء تركيبة الحكومة لا أكثر. وقد عاد بالأمس ليذكر الحريري بأنّ “من يريد أن يرأس حكومة اختصاصيين يجب أن يكون هو الإختصاصي الأوّل”، او “يزيح لاختصاصي”، ومن يريد ترؤس حكومة سياسيين، فحقّه ان يفكّر اذا كان هو السياسي الأوّل، ومن يحب ان يخلط بين الإثنين، “بدو يعرف يعمل الخلطة، بس بلا تذاكي وعراضات اعلاميّة”.