يكادر يمر اسبوعان على التظاهرة العونية الضخمة في وسط بيروت. ماذا فعل التيار الوطني الحر خلالهما لاستثمار التأييد الشعبي لتحقيق أي من مطالبه في الانتخابات النيابية والتعيينات الأمنية والحركة المطلبية؟ لا شيء. قال العونيون كلمتهم ومشوا. معظم النواب انتقل من ساحة الشهداء إلى المطار لاستكمال الإجازة التي اضطروا إلى قطعها، فيما انتقل رئيس الحزب الوزير جبران باسيل إلى باريس
السيناريو السيئ يتكرر كما في كل مرة: يعدّ العونيون ملفاً دسماً بمخالفات تيار المستقبل في الحكم يسمونه «الإبراء المستحيل»، يسلّمونه للقضاء، ثم ينفتحون على المستقبل لإكمال حياتهم بصورة طبيعية. يتحمل القضاء، لا هم، مسؤولية التقصير في محاكمة المستقبل. يعارضون تجاوز رئيس مجلس الوزراء تمام سلام الآلية المتفق عليها لعمل مجلس الوزراء؛ يعتصمون ويخرجون من الحكومة ويهددون ويتوعدون، ثم يعودون إلى المجلس وكأن شيئاً لم يكن.
تبلغ التعبئة ذروتها قبيل التمديد الثاني لقائد الجيش جان قهوجي، ليقتصر الرد على التمديد لقهوجي ببيان إدانة. يكفيهم تسجيل موقف بمعارضة التمديد لـ»سوكلين» في مجلس الوزراء يحفظ ماء الوجه أمام الرأي العام؛ وبعدها يمكن الشركة أن تستمر في عملها ويتواصل هدر المال العام طالما ارتأت أكثرية مجلس الوزراء ذلك. يعتقد العونيون أنهم يؤدون قسطهم للناخبين بمجرد تسجيل موقف من دون الاكتراث للنتائج. لا يتحملون مسؤولية أزمتي الكهرباء والنفايات المتواصلتين؛ من عرقل خططهم هو المسؤول. يتبنون حرفياً الخطاب الحريريّ الذي يحمّل النظام السوريّ مسؤولية منعه من إعادة إعمار البلد. واضح أن استراتيجية التيار لا تقوم على وضع هدف محدد، تتركز كل المساعي السياسية والوزارية والنيابية والإعلامية والافتراضية على تحقيقه، ولا تنشغل بشيء عنه.
عملياً هناك اليوم ثلاثة استحقاقات داهمة:
الأول يتعلق بالاحتجاجات الشعبية التي تجاوزت مساعي الحريريين (المقنّعين بوجوه شبابية ومدنية) لمساواة الناهب بالمنهوب، وبدأت وضع أصابعها على الجروح الحقيقية عبر تسمية «سوكلين» و»سوليدير» و»آل الحريري» وغيرهم بأسمائهم بدل التلطي خلف «كلن يعني كلن» للهروب إلى الخلف. وإذا كان غياب العونيين عن حصار وزارة البيئة مفهوماً نسبياً بعد استفزاز بعض المنظمين لهم، فلا شيء يبرر عدم قيادة نواب جبيل وكسروان والمتن ومرشحي بيروت والكورة والبترون العونيين إلى شواطئ هذه الأقضية التي يسيّجها عشرات رجال الأعمال ويفرضون رسوم دخول إلى الشاطئ العام. ولا يمكن فهم لماذا يقود شباب الحزب الشيوعي وحزب الاتحاد والحزب القومي التحركات ضد تحويل عكار إلى مزبلة، بدل أن يكون العونيون في الطليعة. المطلوب جهد كبير لإقناع المجموعات (التي لا تنطلق من خلفية معادية للتيار) بأن اتهام العونيين بالفساد غير صحيح، وجهد أكبر لملاقاة هذه المجموعات سواء سياسياً في مجلسي النواب والوزراء أو ميدانياً أمام الدالية وشركة سوليدير وخليج مار جرجس ووسط بيروت. سقطت ذريعة الاعتراض على «كلن يعني كلن» و»آراء أسعد ذبيان الشخصية» وعدم تسييس التحرك، وبدأت غالبية التجمعات الاحتجاجية تسمية الفاسدين الحقيقيين بأسمائهم في ظل مطالبة واضحة بإعادة تكوين السلطة عن طريق قانون انتخابات نسبيّ، ولا بدّ أن يلاقيهم التيار الوطني الحر في منتصف الطريق، وإلا فسيفقد الكثير من صدقيته ويثبت أنه بات فعلاً واحداً من أحزاب السلطة. لتحقيق ذلك، المطلوب اقتناع القيادة الجديدة للتيار بأن الأولوية يجب أن تكون للنضال الحقيقي من أجل انتزاع الحقوق، لا للتسويات السياسية التي ثبت أنها لا تفضي إلى نتائج إيجابية بالنسبة إلى جمهور التيار.
الثاني يتعلق بحل أزمة قائد فوج المغاوير العميد شامل روكز التي ما عادت تحتمل مزيداً من الاستهتار والتأجيل والمراجل. بداية كان العونيون يهدّدون بالاستقالة من الحكومة إذا مُدد لقهوجي، إلا أن التمديد حصل من دون رد فعل. لاحقاً، كان يفترض بالتظاهرات العونية أن تتواصل حتى يعود وزير الدفاع سمير مقبل عن قراره، أو توفر الحكومة حلاً لروكز، لكن لا هذه حصلت، ولا تلك. انتهت التظاهرة وتوقفت التعبئة من دون أي مبرر.
لا يمكن غير التيار العوني الاستفادة من التحركات المطلبية لإعادة تصويب البوصلة
وها هو الوقت يمر من دون وجود أي خطة عمل. أما الدعوة إلى التظاهر لـ «فش الخلق» بعد إحالة روكز على التقاعد، فلن تفيد بشيء. هذا هو الامتحان الحقيقي للتيار: ليس المطلوب في هذا الملف تسجيل موقف كالعادة. المطلوب تحقيق نتيجة. علماً أن هناك ثلاثة أسابيع فقط قبل تسريح روكز، يحتاج خلالها إلى: 1، إقناع قيادة الجيش بشخص العماد قهوجي بتقديم اقتراح إلى وزارة الدفاع ومجلسي الوزراء والنواب بتعديل قانون الجيش على نحو يتيح لروكز الاستمرار في الخدمة؛ 2، إقناع روكز بقبول ترقيته إلى الرتبة المستحدثة له وحده بعدما عبّر في مجالسه الخاصة عن رفضه أي تدابير استثنائية تظهره بمظهر «طابق المر»، وأي تعديل للقوانين يستفيد منه هو وبضعة ضباط. علماً إن إظهار روكز بمظهر المستقتل على قيادة الجيش لا يخدم أبداً مستقبله السياسي، لأنه كسب تأييد الرأي العام بوصفه ضابطاً شجاعاً لا تهمه المناصب، كما أن نقله من قيادة فوج المغاوير إلى مكتب ضيق يمضي أيامه فيه بوصفه «لواء» سيكون أمراً قاتلاً بالنسبة اليه؛ 3، تقديم التنازلات اللازمة لقبول تيار المستقبل عموماً والنائب فؤاد السنيورة شخصياً تقديم هذه الهدية إلى عون؛ 4، تقديم التنازلات اللازمة لفتح مجلس النواب حتى يقونن التعديلات المطلوبة. علماً أن عطلة المجلس تمتد إلى ما بعد 15 تشرين الأول، الموعد المفترض لتسريح روكز.
الثالث يتعلق بقانون الانتخابات النيابية الذي لا يسع التيار الاستمرار في جعله أولوية مطلقة يتظاهر عشرات الآلاف من أجلها قبل الظهر، ويضعه على الرف بعد الظهر. إذا كان إجراء الانتخابات النيابية أولوية العونيين لإعادة تكوين السلطة لا بد من إعلامهم الرأي العام بالخطة التفصيلية لتحقيق هذا الهدف. كانت المساعي السياسية هي البند الأول في هذه الخطة، وقد أخفقت. كانت التظاهرة الأخيرة البند الثاني. ماذا عن البنود الثالثة والرابعة والخامسة في هذه الخطة؟
لطالما شكا العونيون من عدم تفاعل الرأي العام معهم كما كانوا يأملون. اليوم الشارع يتقدمهم. لا يسعهم القول أين كنتم قبل عشر سنوات ولا الجلوس متكتفين مشككين في غايات الآخرين ولا التعويل على صفقات سياسية. لا يمكن غير التيار الوطني الحر، بين أفرقاء السلطة، الاستفادة من كل ما يحصل، من التحركات المطلبية إلى الانتخابات النيابية، لإعادة تصويب البوصلة وتحقيق نتائج حقيقية.
مشكلة البلد هشام حداد
كان يفترض بالتيار الوطني الحر الانطلاق بزخم استثنائي بعيد التظاهرة الضخمة لتحقيق مطالبه المحقة. هذا ما أمله كثيرون، إلا أن التيار انشغل مع الأسف عن قانون الانتخابات والهموم المعيشية واتهامات تيار المستقبل للوزير جبران باسيل بالفساد وهدر المال العام والإخلال بالآلية المتفق عليها لعمل مجلس الوزراء والتعيينات الأمنية وكل العناوين الأخرى بالإعلامي هشام حداد. ففي وقت تبذل فيه قيادة التيار جهداً لتقبل كل ما ينعتها الحريريون به، وتصالح القوات اللبنانية، وتتناسى أجراس الكنائس وملف المهجرين وغيره من الملفات العالقة مع النائب وليد جنبلاط، وتتحاشى استفزاز الرئيس نبيه بري الذي يحرص على تعطيل كل مشروع يستفيد العونيون منه، لم يبق أحد يعلق العونيون اتهاماتهم عليه ويكيلون له الشتائم ويحملونه المسؤولية عما بلغته الأوضاع غير مقدم «لول» السابق الذي «قبض» عليه ينتقد الوزير باسيل، قبيل وبعيد انتقاله إلى المؤسسة اللبنانية للإرسال.