IMLebanon

العونيّون أكثر خرقاً و«القوات» أكثر إنسجاماً

إذا كان الجميع يتعاطى مع الانتخابات البلدية باعتبارها «بروفا» للانتخابات النيابية، فأيّ استنتاجات خرجت بها الجولات البلدية الثلاث الأولى داخل البيئة المسيحية، سواء على مستوى الأحزاب والقوى السياسية والعائلية أو على مستوى الرأي العام؟

في انتظار الجولة الشمالية، الأحد، بدا المزاج المسيحي موزّعاً كالآتي:

1- في بيروت، اتجاه واضح إلى منحِ «المجتمع المدني» فرصة. والمسيحيون الذين صوّتوا لـ«بيروت مدينتي» ليسوا بالضرورة جميعاً ضد الأحزاب السياسية. وثمّة تقديرات بأنّ كثيراً من مناصري الأحزاب أعطوا «اللائحة المدنيّة» أصواتَهم لأنّها ربّما تشكّل لهم فرصة لكسر الحلقة المفرغة التي يدور فيها البلد.

ولكن، أظهرَت انتخابات بيروت أنّ «القوات» كانت أكثرَ تماسكاً حزبياً، فيما شهدَ «التيار الوطني الحرّ» شِبه انتفاضة في الأشرفية. وتعاطت القوى الحزبية والمحلية الأخرى مع العملية واقعياً.

2- في زحلة، تحالفَت الأحزاب ضد لائحتَي سكاف وفتّوش وانتصرَت عليهما. وربّما كانت المعركة اختلفت نتائجها لو كانت اللائحتان موحّدتين (10500 صوت للأحزاب مقابل 15800 للّائحتين معاً). لكنّ توحيد اللائحتين صعبٌ جداً على أرض الواقع بسبب صراع سكاف – فتّوش على زعامة زحلة الكاثوليكية. واستطاع عون تسجيلَ هدفٍ مهم بخرقِه أسوارَ زحلة.

3- في جونية، خرجَ عون من المعركة البلدية منتصراً، مع جوان حبيش، ولكن «من خروم الشبك». فالفارق بين لائحته واللائحة المقابلة دون الـ1%. وقد اضطرّ عون إلى تسييس المعركة واستنفار الأنصار بحضوره شخصياً، فيما أدّت مرونة جعجع هناك إلى مستوى أدنى من التجييش والعصبية. ولو حصَل الاستنفار «القواتي» لربّما فازت اللائحة المقابلة.

4- في دير القمر، أفاد عون من تحالفِه مع «القوات» ليدكّ أسوارَ خصمِه الشخصيّ دوري شمعون. لكنّ عون بقيَ مستأثراً بمعاقله، كالحدت.

5- في المتن، خسرَ عون وجعجع مجتمعين هنا وربحا هناك، وخسر أحدهما في مواجهة الآخر والقوى السياسية الأخرى في المتن. لكنْ تجدر الإشارة إلى أنّ كوادر عون ومناصريه كانوا في مواقع متقابلة في العديد من المعارك.

6- في جزّين، اضطربَ مناصِرو عون على رغم أنّه أعطى المعركة طابعها السياسي. وبدا أنّ آل الحلو كانوا يطمحون إلى تعويضٍ لخسارتهم موقعَ النائب الراحل ميشال الحلو. ولأنّ خيار النيابة محسوم لأمل أبو زيد، فلتكُن البلدية للعائلة. وأدّت البَلبلة بلدياً إلى خسارة خليل حرفوش.

وفي المحصّلة، أظهرَت «القوات» أنّها الأكثر انسجاماً تنظيمياً، إذ لم تقع معارك بين «الرفاق»، فيما أنصار عون توزّعوا اللوائحَ المتقابلة أحياناً أو «خردقوا» اللائحة المدعومة رسمياً، كما حصَل في جزّين ومناطق عدة. وتصرّفت الكتائب واقعياً، وبمقدار ما تسمح به الأحجام. وأمّا القوى السياسية المناطقية والعائلية فأظهرَت الصناديقُ أنّها ما زالت تحتفظ بحضور وازن.

وفي الاستنتاج العام، تبقى المعارك الانتخابية في لبنان مسيحيةً في الدرجة الأولى، فيما تتراجع حماوتُها تدريجاً: في درجة أدنى لدى السنّة، ثمّ الدروز فالشيعة. ويعود ذلك إلى واقع التنوّع الذي يعيشه المسيحيّون تاريخياً.

ولدى السنّة والشيعة والدروز، كان التنوّع أكبرَ قبل الحرب الأهلية. فلم يكن لدى السنّة تيّار عابر للمناطق كلّها كالحريرية السياسية، بل زعامات عائلية في بيروت وطرابلس وصيدا وعكار. ولم تكن للشيعة ثنائية حزبية شاملة بل بيوتات عائلية في البقاع والجنوب. وكانت ثنائية الدروز، الجنبلاطية – الإرسلانية بديلاً لِما هو اليوم شِبه أحادية. وأمّا المسيحيّون فكانوا شديدي التنوّع حزبياً وعائلياً.

لكنّ الأحزاب المسيحية الأساسية، الكتائب والوطنيين الأحرار والكتلة الوطنية، تحوّلَ بعضُها بفِعل مقتضيات الحرب جيوشاً شِبه نظامية. و«القوات اللبنانية» التي نشأت في بيت الكتائب عمدَت إلى «توحيد البندقية المسيحية».

وعندما ظهر العماد ميشال عون، بنى شعبيتَه من مجمل الأرضية المسيحية المتنوّعة حزبياً وعائلياً. والفكرة التي بنى عليها عون صورته هي أنّه يمثّل الدولة في وجه الميليشيا. ولذلك، استطاع أن يجذبَ كلّ الذين كان لهم مأخذ أو ثأر، على القوى الحزبية والميليشيوية خلال الحرب.

وعندما انتهَت الحرب، تحوّلَ الجميع «أحزاباً».

فتعايشَت الأحزاب القديمة، على حجم تمثيلها (الكتائب والأحرار والكتلة…)، مع الحزبَين الجديدين نسبيّاً، «القوات» و«التيار». وفي مطلعِ العام الجاري، خلقَ تحالف معراب معادلة جديدة. وبات أمام هذا التحالف استحقاقان: إمّا أن يفتح الباب للمصالحة الشاملة مسيحياً، وإمّا أن يطلق حربَ إلغاء ثنائية ضد القوى الحزبية والمناطقية.

فالقوى الحزبية كافّة تقرأ اليوم ما خرجَت به المعركة البلدية من استنتاجات، سواء في طريقة التعاطي داخل كلّ حزب، أو بين الأحزاب والقوى العائلية والمناطقية، علماً أنّ التركيبة السياسية والاجتماعية والطائفية تشير إلى أنّ غالبية الأحزاب هي نفسُها عائلات، والعكس صحيح.

والأحزاب التي لم تنشَأ على أساس عائلي في لبنان، قبل حرب العام 1982، هي إجمالاً تلك التي قامت على أسُس عقائدية أو شِبه عقائدية. ومِن أبرز أمثلتِها الحزب السوري القومي الاجتماعي والحزب الشيوعي وحزب البعث العربي الاشتراكي ومنظّمات عديدة نشأت عموماً في الستّينات والسبعينات، تحت تأثير الصراع مع إسرائيل.

وهذه القوى الحزبية تمتلك اليوم قدرات محدودة نسبياً، وبعضُها زال نهائياً. وبعد الحرب، نشأ «حزب الله» (1982). ومسيحياً، كانت انطلاقة كلّ مِن «القوات» و«التيار» محاولة للانتفاض على المفهوم القديم.

ولكنْ، في لبنان، لكي تكون الأحزاب أحزاباً فعلاً، يُفترض أن تكون مبنية على هيكلية مؤسساتية حقيقية، يجري فيها تداوُل المسؤوليات بديموقراطية كاملة، وتكون خاضعة للمراقبة والشفافية، وتجري محاسبة المسؤولين فيها وتغييرهم إذا أرادت القاعدة. وأحزاب لبنان كافة ما زالت بعيدة من هذا المفهوم.

وأمّا الاستنتاجات المسيحية من الجولات الثلاث الأولى من الانتخابات البلدية فهي الآتية:

1 – هناك حالة عامة من القنوط يعيشها اللبنانيون وقد عبَّر عنها المسيحيون بوضوح أو خجل، ولا سيّما بيروت، حيث أتيحَت لهم لائحة تغييرية. وهذا ما شهدَته الحالة الشيعية أيضاً، بأشكال ونِسَب مختلفة في بعلبك والجنوب.

2 – إنّ القوى الحزبية لها مكانُها، وكذلك القوى السياسية والعائلية المناطقية، وهي كلّها عبّرت عن نفسها في الصناديق. وهذا يعني أنّ الأحزاب مدعوّة إلى عقدِ تفاهمات شاملة «واقعية» في الاستحقاق النيابي المقبل.

3 – أظهرَ بعض القوى الحزبية حاجةً إلى ترتيب البيت الداخلي، فيما بدت قوى أخرى أكثر انضباطاً. وعندما تدور المعارك في دوائر صغيرة نسبياً لا يعود مسموحاً تركُ ثغرات من هذا النوع داخل الخيارات الحزبية لأنّها تهدّد بخسارة المعركة. وما جرى لحرفوش في جزين دليل واضح إلى ذلك.

4 – إنّ الخيار إنمائي في القرى والبلدات الصغيرة، لكنّ المنحى السياسي يبدأ بالبروز كلّما اتّسع حجم الدائرة الانتخابية، حتى يصبح الخيار السياسي هو الأقوى في المدن الكبرى، كبيروت.

5 – إنّ الناخب اللبناني عموماً لم يبلغ بعد حدود النضوج السياسي، ما يخوِّله تغييرَ الذهنية التي تكفّل معظم طاقمها بإغراق البلد على مدى عشرات السنين، وستُغرقه في السنوات المقبلة، في الفساد والاهتراء والفوضى. فثقافةُ الإصلاح السياسي شِبه مفقودة.

ولذلك، ينادي اللبنانيون بالتغيير والانتفاض على الواقع، لكنّهم إجمالاً ما زالوا يجدّدون بمِلء إرادتهم للطبقة السياسية التي يتسبَّب معظم أركانها اليوم بمآزقهم في السياسة والاقتصاد والإنماء. وربّما يمكن البناء على تجربة المجتمع المدني في بيروت ورسم استراتيجيات التحرّك في الاستحقاقات المقبلة.

الأرجح أنّ الجميع سيستثمر فرصة الانتخابات البلدية لرسم الاستراتيجيات الجديدة. فهل ستكون البيئة المسيحية سبّاقة، في استشراف المراحل الجديدة، وما خياراتها المستقبلية؟