لا يعيد الصوت العونيّ المرتفع في لجنة المال والموازنة اليوم الاعتبار إلى العسكريين العونيين فقط، بل إلى العناوين السياسية العريضة التي تراجعت خلال السنوات القليلة الماضية إلى الخلف على نحو أوحى بأن أساس الصراع خلافات بين الطوائف، وليس شيئاً آخر
هناك إعادة اعتبار مذهبية طائفية لا ينفكّ التيار الوطني الحر يرفع راياتها. فيصبح انتخاب العماد ميشال عون رئيساً انتصاراً مسيحياً عظيماً يعيد الاعتبار إلى المسيحيين في الدولة بدل أن يعيد الاعتبار إلى عنوان «الحرية والسيادة والاستقلال» الذي كان هو «مشكلة عون» لا مارونيته. وكذلك الأمر حين يصبح البحث في قانون الانتخابات بحثاً في كيفية إعادة الاعتبار إلى الصوت المسيحيّ المهمش بدل إعادة الاعتبار إلى الأصوات السنية والشيعية والمسيحية والدرزية المهمشة. وهناك أيضاً إعادة اعتبار سياسية يتعامل معها التيار الوطني الحر نفسه بكثير من الهدوء، ويكاد يمكن القول دون صخب إعلامي. التدقيق يبين أن هذا الحزب يسعى إلى إعادة اعتباراته هنا وهناك، لكنه يركز مع الأسف على واحدة أكثر من الأخرى. فبعيد انتخاب عون رئيساً ببضعة أيام، أصدرت بلدية بيروت قراراً بناءً على طلب أحد أعضائها العونيين بتسمية مستدير العدلية، مستديرة 7 آب.
مرّ الخبر مرور الكرام حتى في الإعلام العوني، مع أنه كان يستحق الكثير من الاهتمام. وكان يستوجب أولاً بأول البحث عمّن جعلوا بنضالاتهم ذلك اليوم ذا شأن كبير، والسؤال عن أحوالهم أو الوقوف على خاطرهم، خصوصاً أن غالبيتهم «أُخرِجوا من اللعبة». لاحقاً، كان هناك الاحتفال العونيّ الكبير في القصر الجمهوري بذكرى 13 تشرين في مشهدية سينمائية تعيد الاعتبار السياسي ــ لا الطائفي ــ إلى العونيين في القصر. وحين أعلنت التشكيلة الحكومية كان هناك إعادة اعتبار سياسية كبيرة لفريق 8 آذار تتمثل بتوزير يعقوب الصراف، تقابلها إعادة اعتبار سياسية كبيرة لفريق 14 آذار تتمثل بتوزير مروان حمادة؛ لكن لا هذا الفريق أضاء على إعادة اعتباره ولا ذلك؛ الاثنان انشغلا بتعداد مكاسب مذاهبهم. أما اليوم، فتعقد لجنة المال والموازنة برئاسة النائب إبراهيم كنعان وحضور وزيري العدل والدفاع العونيين اجتماعاً مهماً لإنجاز قانون تمديد مهل المراجعات القضائية للضباط والعسكريين الذين ألزموا بالاستقالة أو سُرِّحوا من الجيش لمجرد أنهم عونيون. فبعيد التكريم المعنوي الصغير في مناسبات مختلفة لمن كانوا يوصفون بالمناضلين الجامعيين، تأتي خطوة اليوم لتردّ الاعتبار إلى جناح التيار الوطني الحر الآخر. فاقتراح القانون يطالب بإعادة الاعتبار ــ مادياً ومعنوياً ــ لكل ضباط الجيش وقوى الأمن الداخلي والأمن العام وأمن الدولة «الذين سرحوا بصورة غير قانونية استناداً إلى استقالات باطلة»، إضافة إلى الضباط الذين صدرت بحقهم مراسيم التسريح من الخدمة وهم خارج الأراضي اللبنانية، كذلك يشمل مشروع القانون الضباط الذين بقوا في الخدمة، لكنهم تعرضوا لتأخير مبرمج في ترقياتهم بغية إكراههم على الاستقالة، وكل تلامذة المدرسة الحربية ــ الدورة المسماة «الانصهار الوطني» ــ الذين أُخِّر تخرجهم ثلاث سنوات دون مبرر، ونحو 200 عسكري سُرِّحوا بين 13 تشرين 1990 و13 تشرين 1995 بتهمة مناصرتهم العماد عون. أما الأهم من هذا كله، فهو نص اقتراح القانون على اعتبار جميع الضباط الذين استشهدوا عام 1990، بمن فيهم الذين استشهدوا في 13 تشرين طبعاً، شهداء شرف ليعاد اعتبارهم وتكوين وضعهم الوظيفي وفقاً لأحكام القوانين المرعية الإجراء.
ينص الاقتراح على اعتبار العسكريين الذين قضوا عام 1990 شهداء شرف
علماً أن اقتراح القانون كان قد وصل سابقاً إلى المجلس النيابي قبل أن يعاد إلى اللجان النيابية التي ستلتئم اليوم بحشد عونيّ جديّ لضمان تحويله سريعاً إلى المجلس النيابي وإقراره في أسرع وقت. ولا شك في أن كنعان سيلفت نظر الإعلام في جلسة اليوم إلى تقدم رئيس تكتل التغيير والإصلاح سابقاً العماد ميشال عون باقتراح القانون هذا بتاريخ 13 تشرين الأول 2012. لكن الظروف السياسية لم تسمح للعونيين بتحقيق هذا النصر المعنوي الصغير، إلا أن إعادة الاعتبار الأكبر حصلت مع انتخاب العماد عون رئيساً، وبات يمكن الآن الانتصار لمن قاتلوا إلى جانب الجنرال. وما سبق مهم، ليس في رمزيته العونية فقط، بل في التوضيح مجدداً أن المعارك والإقصاء وغيرهما لم يكونا على خلفية مذهبية أو طائفية؛ أصل الصراع سياسي لا مذهبي. ويفترض بروزنامة إعادة الاعتبارات العونية أن تشمل عدة ملفات سياسية مثلت لعقود العناوين الأساسية للحراك العونيّ. فالعونيون مطالبون بإعادة الاعتبار للمهجرين من الجبل، ووزير الطاقة العونيّ اليوم سيزار أبو خليل هو من انكبّ طوال عشر سنوات على جمع المعلومات، معلومة معلومة، لتكوين ملف شامل عن الهدر في ملف المهجرين، والظلم اللاحق بآلاف الأسر التي لا يختلف اثنان على أن تأمين المنازل والبنية التحتية الضرورية لعودتها أهم من كل المزايدات الطائفية. كذلك إن إعادة الاعتبار إلى الموظفين في القطاع العام الذين «بقوا محلهم» لرفضهم الدخول في المافيات الإدارية يوازي بأهميته إعادة الاعتبار إلى العسكريين العونيين. فهناك أساتذة وأعضاء مجالس بلدية وموظفون في الإدارات العامة وقضاة ومحامون وأطباء ومهندسون دفعوا أثماناً باهظة وألزموا بالاستقالة لرفضهم التوقيع على ما يتعارض مع قناعاتهم. وفي وسط بيروت هناك أصحاب حقوق، يعرفهم الرئيس ميشال عون ويعرفونه؛ يعتقدون أن كتابة التاريخ ودخوله لا تحتاج مراجل طائفية. ومن يراجع أدبيات العونيين سيقع على نصوص كثيرة تتحدث عن وجوب إعادة الاعتبار إلى الوزارات والإدارات التي هُمِّشَت جميعها لمصلحة أجهزة وصناديق تتبع مباشرة لرئاسة مجلس الوزراء. ولا شك، في هذا السياق، في أن كثيرين كانوا ينتظرون بفارغ الصبر لحظة وصول شخص مماثل للعماد ميشال عون إلى السلطة ليعيد الاعتبار إليهم. ولا بدّ بالتالي من استكمال حدث اليوم المهم والكبير بملف رئاسي كامل يصحح أوضاع كل من ألحقت بهم العهود الحريرية المتعاقبة ظلماً كبيراً.