ما يتجنب العونيون قوله بصراحة هذه الأيام هو أنهم فشلوا: سقط رهانهم على تيار «المستقبل» وحلفائه بإمكان عقد تسوية محلية جديّة مقابل بضعة تنازلات عونية. لكن الفشل لا يعني اليأس، لان عنوان المعركة واضح: قانون الانتخاب أولاً
من يسمع نائبا عونيا أو وزيرا أو عضوا في المكتب السياسيّ يتحدث عما عاناه التيار ولا يزال مع شركائه المفترضين في الوطن يتعاطف بالكامل معهم.
فهم يريدون إحياء ترويكا يكون العماد ميشال عون فيها رئيساً للجمهورية، وسعد رفيق الحريري رئيساً للحكومة، ونبيه بري رئيساً لمجلس النواب، والنائب وليد جنبلاط حاكماً أول في وزاراتها، لكن المعنيين الآخرين بهذا كله لا يريدون. يريد العونيون تيار المستقبل بكل علّاته وهو لا يريدهم بكل تنازلاتهم. فعلوا كل شيء تقريباً ولم «يتلحلح» تيار المستقبل: أعدوا ملفات المحاسبة وصعّدوا ثم هادنوا وصالحوا وذهبوا إلى باريس، فبيت الوسط، وقدموا كل التطمينات اللازمة ولم يتحرك الحريري قيد أنملة. لماذا؟ لا يفهمون موقف شركائهم المفترضين. هم يرون أنهم هم الشريك المسيحي المنتظر، فيما هو يرى شركاءه في دفن «الشيخ زنكي» منذ خمسة وعشرين عاماً أحياء يرزقون.
في الأزمة الحالية ثلاثة لاعبين:
الأول هو تيار المستقبل والنائب وليد جنبلاط والرئيس نبيه بري. استفاد هذا اللاعب من مقاطعة العونيين والقوات والكتائب والبطريركية المارونية لانتخابات عام 1992 ليضيف إلى ممثليه السنّة والدروز والشيعة في النظام الطائفي اللبناني وزراء ونواباً ومديرين عامّين وموظفين مسيحيين (وهو بالمناسبة كان أمراً طبيعياً قبل الحرب في حالتي «أمل» والحزب التقدمي). وقد عقد هؤلاء الفرقاء الثلاثة تحالفات مع من يمكن وصفهم بأبناء البيوتات السياسية المسيحية التقليدية، وأمّنوا لهم كل ما يحتاجونه في سبيل ملء الفراغ السياسي المسيحيّ بحكم الحظر الرسمي وغير الرسمي للتيار والقوات. وللأمانة، لا يمكن القول أبداً إن أياً من هؤلاء الثلاثة كان كيدياً بحق المسيحيين، فمن كان معه في السياسة حصل على كل ما يريده وأكثر إن كان مسيحياً، أما من كان ضده فعانى الأمرّين سواء كان مسيحياً أو سنياً أو درزياً أو شيعياً. واليوم، لم يعد للرئيس بري عدد كبير من «الأتباع» المسيحيين فيما يستميت المستقبل (وجنبلاط) في حماية «حلفائهم» و»التابعين لهم» ودعمهم بكل الوسائل لأن خسارة النواب هادي حبيش ورياض رحال ونضال طعمة وفريد مكاري وبطرس حرب وميشال فرعون وسيرج طورسركيسيان لمقاعدهم النيابية تعني خسارة المستقبل نصف كتلته النيابية مع ما يستتبعه ذلك من تحجيم لنفوذه السياسي والإداري والخدماتي. وهذا اللاعب – الفريق إنما يقول إن الأكثرية المسيحية – كما تحددها المقاعد النيابية لا آراء البعض – هي معه وليست في أي مكان آخر.
اللاعب الثاني هو التيار الوطني الحر الذي فشل أولاً في كسر حرب وحبيش والمر وفرعون وغانم وغيرهم من نواب المستقبل المسيحيين في الانتخابات، وفشل ثانياً في إيجاد الأكثرية اللازمة لتغيير قانون الانتخابات، وفشل ثالثاً في إقناع تيار المستقبل بالتخلي عن أهل بيته من أجله مقابل التطمينات اللازمة. وبرغم التهديد العونيّ اليوم والوعيد فإن أحداً في التيار الوطني الحر لا يعرف ماهية الحل طالما يقول الفريق الأول إن ما أخذوه بالانتخابات لا يسترد منهم بغير الانتخابات. وهذا اللاعب، اليوم، في حالة اضطراب وقرف، لكنّ المعنيين الآخرين بالأزمة يعتقدون بأنها مجرد نوبة تنتابه كل عام وسيهدأ بعد قليل بمجرد وعده مجدداً بشيء ما.
اللاعب الثالث هو حزب الله الذي يفهم ويتفهم الشكوى العونية، وهو أقنع الرئيس بري بأن ما يأخذه حليفهما يعادل ما يأخذانه طالما تلتقي كتلهم النيابية والوزارية على العناوين السياسية نفسها، بموازاة متابعته المحاولات العونية العبثية لإقناع المستقبل باحترام مقتضيات الشراكة الطائفية، لكنّ الحزب الذي يدافع عن وجود سرايا المقاومة واستمراريتها في مناطق نفوذ المستقبل، لا يسعه ولا يمكنه بطبيعة الحال مطالبة المستقبل بالتخلي عن سرايا قريطم واستمراريتها في مناطق نفوذ العونيين. فضمن المؤسسات التي يملك حزب الله نفوذاً متواضعاً فيها الكلمة الفصل للأوزان النيابية، والواضح أن الحزب لا يفكر في القيام بانقلاب عسكري يلزم النواب بموجبه بتعديل الدستور أو إقرار قانون انتخابات نيابية جديد أو انتخاب العماد عون رئيساً. كل ما كان في وسع الحزب فعله هو التأكيد لتيار المستقبل التزامه الكامل بتطمينات العماد عون ووعوده سواء في ما يخص رئاسة الحكومة أو غيرها. علماً أن الحزب والعماد عون سبق وقدما للحريري تطمينات ووعوداً قبيل تأليف حكومة 2009 ولم يلتزما بها فأسقطا حكومته وهو في البيت الأبيض.
مراقبة اللاعبين الثلاثة تبيّن استماتة المستقبل في الحفاظ على مكاسبه مقابل كسل عوني في السعي لتحقيق مكاسب إضافية. فمواقع التواصل الاجتماعي تضج منذ أسابيع بتذمر جمهور تيار المستقبل في عكار، مثلاً، مما يصفونه بـ»تغنيج» الرئيس سعد الحريري للنائب هادي حبيش. فالنائب خالد زهرمان أو النائب معين المرعبي مضطران إلى المرور بحبيش في حال احتياجهما لأي طلب في الإدارات الرسمية، لأن التوصية الحريرية تنص على عدم ردّ طلب لحبيش. ولا علاقة هنا طبعاً لوسامة النائب العكاريّ أو بهاء طلته بالموضوع، فهو في حسابات الحريري نائب مسيحي ينبغي تعزيز حيثيته في منطقته وتوطيدها. فزهرمان والمرعبي لا يمثلان قيمة مضافة بالنسبة للمستقبل، أما حبيش وفريد مكاري وبطرس حرب وميشال فرعون وروبير غانم، فيضيفون إلى الوزن المستقبليّ السنيّ وزناً نيابياً يؤمن لتيار المستقبل الأكثرية اللازمة للهيمنة على الإدارات والسيطرة والتوسع. وها هي إدارات الدولة تشرع اقتلاع حبيش كل ما يلزم من أشجار ليصل إلى أرضه، فيما تتسابق الإدارات نفسها على عرقلة وتأخير إنشاء السدود للحؤول دون قول باسيل إنه حقق إنجازاً ما. وكتلة النائب ميشال المر تقلصت من ثمانية أو تسعة أو عشرة نواب في أواسط التسعينات إلى نائب واحد أو نائبين اليوم، لكن الكلمة المسيحية في وزارتي الأشغال العامة والداخلية لا تزال لأبو الياس لا للتيار الوطني الحر أو للقوات اللبنانية. ومنصور البون نائب كسروانيّ سابق لكن مطالبه لمنطقته سواء في «الصحة» أو «الشؤون الاجتماعية» أو «الاتصالات» أو «الداخلية» تتحقق قبل طلبات نواب كسروان الخمسة الحاليين بمن فيهم العماد ميشال عون. لماذا؟ لأسباب سياسية لا مذهبية. علماً أن تصريحات المسؤولين العونيين لا تبين إن كانوا يفهمون فعلاً أن حسابات خصومهم سياسية أكثر منها طائفية، لكنهم يظهرون المشكلة طائفية لأسباب تتعلق بالتعبئة الشعبية، أم أنهم لا ينتبهون فعلاً إلى أساس المشكلة. ففي الأساس يحق للمستقبل القول إن لديه أزلاماً أوفياء يعززون قوته لن يتخلى عنهم، وموازين القوى النيابية تتيح له رفض انتخاب العماد عون رئيساً وعدم إفساح المجال أمام العونيين لتسمية مدير عام واحد أو حتى محافظ ما لم يكن من الطائفة العلوية. المشكلة أن الدستور يتيح لهم فعل كل ما سبق وخطواتهم بهذا الخصوص قانونية ومشروعة مئة بالمئة. أما التيار الوطني الحر فكان مؤسسه العماد عون حاسماً في تحديد أولويته منذ عودته إلى لبنان من 11 عاما بأنها المشاركة في السلطة.
إقصاء التيار الوطني الحر وإحراجه لإخراجه معركة سياسية لا طائفية
وهو حصل على تفويض شعبي كبير عامي 2005 و2009 لتحقيق هذا الأمر، وتساهل كثيرون مع تحالفه مع من يشبهونه ومن لا يشبهونه ووضعه جانباً كل ملفات الفساد واستزلام السياسيين للمرجعيات الخارجية من أجل «المشاركة»، لكن لا العماد عون انتخب في نهاية الأمر رئيسا، ولا التشكيلات الأمنية مرت بالرابية، ولا أفسح المجال أمام اختيار مديرين عامين من خارج الطقم الحريري ــ الجنبلاطيّ ــ الأملي. وما زال حل رجل الأعمال المتنيّ أو الكسروانيّ أو البتروني لمشاكله لدى وزارة المالية أو دائرة الضريبة على القيمة المضافة يستلزم زيارته المختارة يوم السبت، أو وقوفه على باب النائب ميشال فرعون أو الرئيس فؤاد السنيورة، كما يمكن المقاول تجربة حظه مع أحد النواب أو الوزراء العونيين، لكنه سيكون أكثر اطمئناناً إلى حتمية فوزه في المناقصة إذا كان يتكل على النائب ميشال المر مثلاً، أو فريد مكاري أو أحد الكوادر الثانويين في حركة أمل. وفي بلد «الوسايط»، لا تسألوا عن حصة العونيين في دورات تطويع الضباط في مختلف الأسلاك الأمنية، وحصة نواب المستقبل الحاليين والسابقين. وتعبيد طريق في كسروان كان يستلزم مقايضة هائلة مع وزارة الأشغال العامة والنقل، وتمرير عقد صغير في وزارة الطاقة كان يستلزم تمرير عقد كبير في وزارة الصحة. ومقابل «فرعنة» أصغر موظف اشتراكي في وزارة الصحة، لأن الوزير اشتراكي، حكم على الموظف العوني في وزارة الخارجية والطاقة والتربية بأن يتمسك بحذره وقلقه بحكم نفوذ المديرين العامين وسطوتهم وعدم شعوره بأن الوزير العوني سيحميه أو «يغطيه» كما يفعل كل من «الاشتراكي» و»المستقبلي» و»الأملي» مع جماعته.
مقابل هذا كله ثمة كسل عونيّ. فالعونيون لم يحولوا التشكيلات الأمنية أو القضائية أو تعيين المديرين العامين والمحافظين وغيره إلى مشكلة كبيرة في البلد. ولم يعلنوا أن تمرير أي خدمة في «التربية» أو «الطاقة» يستلزم تمرير خدمة أكبر لهم في «الصحة» أو «الأشغال العامة» أو غيرهما. وبعد تفاهمهم مع القوات لم يحاولوا التقاط طرف الخيط الخاص بفرعون أو مكاري أو حرب أو تويني أو المر أو غانم أو حتى الوزير أشرف ريفي وغيرهم لعزل المستقبل أكثر ومقارعته في عقر داره. لا بل يذهب العونيون إلى المواجهة هذه المرة أيضاً، وهم يفكرون في الخطوط الحمر ووجوب عدم كسر الجرة سواء مع الحريري أو مع بري وجنبلاط بحكم الضرورات الرئاسية.
وعليه ثمة أزمة طبعاً، لكن المدخل لتصحيح هذه الأزمة ليس الشعارات ولا التلويح الكاريكاتوري (والخطير في آن واحد) بالطلاق تارة والفدرالية طوراً، ولا بجعل التعيينات الأمنية عنواناً للمرحلة وغيره وغيره؛ الحل لتصحيح الخلل التمثيلي القائم يكمن في التمسك حقاً بالمطلب الذي رفعه العماد عون قبل يومين في اجتماع تكتل التغيير والإصلاح، وهو إقرار قانون جديد للانتخابات. فالأساس الذي بنى تيار المستقبل نفوذه عليه هو قانون الانتخابات ولا مجال أمام التيار لإحراج المستقبل إلا تغيير هذا القانون. والوصول إلى هذه النتيجة صعب المنال، في ظل «حق الفيتو» الذي يتمتع به ممثلو الكتل الطائفية والمذهبية. لكن إمكان تحقيق الهدف يصبح أسهل، إذا لم يتلهَّ العونيون بقضايا وملفات جانبية، كما حصل منذ عام حين أطلقوا معركة قانون الانتخابات يوم 13 تشرين الأول، وطووها في 14 منه. المطلوب معركة واحدة لكل أيام السنة، بدل معركة جديدة كل يوم.