إنها قصة لاءاتٍ ثلاث: الحريري قال «لا» لعون، جعجع قال «لا» لفرنجية، وإيران تقول «لا» للاستحقاق الرئاسي برمّته لأنه لم ينضج بعد. وهكذا انتهى الجميع إلى التعادل السلبي. «عاش الفراغ»!
راحت «سَكرة» الشمبانيا في معراب وجاءت «فَكرة» الاستحقاق الرئاسي في الرابية. وتبيّن أنّ «قمة معراب»، التي كان حدثها الأساسي، هي أن يقول جعجع عبارة «نعم» لترشيح عون، ستفشل في هذه المهمة تحديداً، فيما ستنجح أكثر في مهمتها ذات الطابع المسيحي، وستؤدّي إلى خلط الأوراق داخل فريقَي 8 و14 وبينهما.
حملت «قمة معراب» مضامين ثلاثة:
1 – المصالحة المسيحية، إذ طوى اللقاء – في شكل دائم أو مرحلي- مرحلة نزاعية مسيحية مدمِّرة سياسياً وعسكرياً، وحتى اجتماعياً، دامت أكثر من ربع قرن.
2 – تحقيق الأرباح السياسية، إذ ربح عون باجتذاب خصمه المسيحي وتقليص عداء «القواتيين» له. ولكنَّ جعجع حقَّق أرباحاً أكبر. فهو في آن معاً ردّ الضربة للحلفاء في 14 آذار، واستوعب فئة من المتردِّدين المسيحيين، واقترب من القاعدة العونية المخاصمة له تقليدياً، ودخل «الأسواق الجديدة» في 8 آذار، ومن خلالها أعاد ترتيب علاقاته الإقليمية، خصوصاً إذا طوَّرت قطر موقفها الداعم لقمة معراب.
وفي المقابل، لا أحد يستطيع إنكار الخسائر المحتمَلة. فعون سيكرِّس الخصومة مع النائب سليمان فرنجية، حليفه المسيحي في الفريق. وأما جعجع فيغامر بخسارة الحريري، وجزء من القاعدة السنّية، والسعودية.
لكنّ هناك مَن يشكِّك في إمكان «حَرَد» السعودية جدّياً على جعجع، لأنها إذا فعلت فستفقد المسيحيين في لبنان وتدفعهم إلى «الحضن الإيراني».
3 – حسم المراوحة الرئاسية. وهنا يمكن الحديث عن فشل كامل لأنّ لقاء معراب، بالتأكيد، لن يقود إلى انتخاب عون. فاللافت أنّ القوى الحليفة للرجل، والتي لطالما ناورت بدعمها له، ما زالت تناور، وكأنّ حدث معراب الاستثنائي لم يحصل، وكأنّ عون لم يحصل على الدعم شبه المستحيل من خصمه المسيحي.
فـ«حزب الله» يربط انتخابَ عون بالتوافق المسيحي – المسيحي والتوافق الشيعي – الشيعي. وفي رأي كثيرين أنّ «الحزب» يستطيع بذلَ الجهود لدى حليفه في الثنائي الشيعي رئيس مجلس النواب نبيه بري وحليفه المسيحي فرنجية لإقناعهما بإيصال عون إلى بعبدا. كذلك يستطيع الطلب إلى جنبلاط وآخرين على الأقل تأمين النصاب. لكنّ «الحزب» لن يفعل لأنه ليس متحمِّساً لعون.
وأما بري ففي يده ورقة الميثاقية، ولن يفتح الباب لجلسة انتخاب تأتي بعون في ظلّ استمرار فرنجية في المعركة، وفي غياب الفريق السنّي الأقوى، تيار «المستقبل». ولذلك، سيتعب موفدو الرابية في إقناع القوى السياسية بانتخاب عون، ولكن عبثاً. فالنصاب لن يكتمل لأنْ لا إرادة سياسية لإنجاز الاستحقاق.
الانطباع السائد في بعض الأوساط المسيحية هو أنّ جعجع يدرك خفايا اللعبة الانتخابية، ولذلك مضى فيها، ليحصد المكاسب في الوسط المسيحي وفي 8 آذار، من دون خسائر تُذكَر. وأين الخسارة في تقديم «شيك» الترشيح إلى عون، خصوصاً إذا كان لا يستطيع صرفه في أيّ مكان؟
جعجع «أدّى قِسطه للعلى»، بالنسبة إلى عون، فوفى بوعده وأعلن تبنّي ترشيحه. وأما مسألة وصول عون إلى قصر بعبدا فهي تتجاوز معراب، وتعتمد على قدرة عون نفسه في إقناع الآخرين، بدءاً بحلفائه الأقربين. ويردِّد البعض مبتسماً المثل اللبناني: «جازِة جَوَّزتِك، ولكن من أين سآتي لكِ بالحظ»؟
والأرجح أنّ عون أيضاً يدرك أنّ كثيرين يناورون بإعلانهم دعمه لبلوغ موقع الرئاسة. وهو اختبر سلوك القوى الخصمة والحليفة معه، في السرّ والعلن، على مدى العامين الفائتين على الأقل، كما كان اختبرها قبل ذلك، في 2005 و2008، ولاسيما في الدوحة.
وربما ارتأى عون من خلال الدعم الذي تلقاه من جعجع أن يكشف مواقف الجميع. وقد يستنتج أنّ جعجع لم يكن العائق الحقيقي أمام وصوله إلى بعبدا. ولذلك، إنّ اللقاء العاصف والعاطف بين عون وأركانه وجعجع وأركانه كان شديد الفاعلية على مستوى تنفيس الاحتقان المسيحي، لكنه رئاسياً لم يكن سوى زوبعة في… معراب!
سيكون عون أمام التحدّي: هل سيقول لـ«حزب الله»، في لحظة، إنه لم يقتنع بعدم استطاعته جمع قوى 8 آذار كلها لتأمين انتخابه؟ وهذا السؤال طرحه جعجع في مقابلته المتلفزة قبل يومين. لكنّ «الحزب»، في المقابل، يحتفظ بكلِّ الحجج والمبرِّرات التي تبعد عنه أيّ شكّ في هذا المجال؟
إذا فعل عون ذلك، فهذا يعني أنّ 8 آذار دخلت في مأزق أعمق من مأزق 14 آذار. وإذا لم يفعل، فمعنى ذلك أنّ لعبة الانتظار العونية ستستمرّ إلى ما لا نهاية، أو إلى أن يحين الوقت لتقول القوى الإقليمية، وإيران خصوصاً، كلمتها.
وعلى الأرجح، سيتطلَّع اللاعبون الإقليميون إلى المرشحين «المحروقين» في لبنان، أيْ «أربعة بكركي»، ويختارون خامساً من خارج الدائرة. وهنا يمكن إحصاء العشرات من الأسماء في جيوب زعماء السنّة والشيعة والدروز… والديبلوماسيين العرب و«الأعاجم».
هل من أحدٍ بين اللاعبين سيندم على عملٍ قام به أو تلكّأ عن القيام به، أو استعجله أو تأخَّر فيه؟
الأرجح أنّ معظم هؤلاء اللاعبين، المتحركين بإرادة أنفسهم أو بـ«الريموت كونترول» الإقليمي، أضاعوا البوصلة وأخذوا يترنّحون في اتجاهات متناقضة. ولذلك، قد يعانون من مشاعر الانتصار والانكسار في آن معاً. وقد يندم البعض في وقتٍ ما، ولكن غالباً لا يعود الندم مجدياً.