هناك فجوة عميقة بين فئة مستفيدة تعتبر سلسلة الرتب والرواتب منصفة لها بتكريسها حقّاً مزمناً أُعطيَ لها بعد سنوات طويلة من الانتظار، وبين فئة متضرّرة تعتبرها مع الضرائب الملحقة بها لتغطية أكلافها، مجحفةً بحقّها كما بحقّ خزينة الدولة، ومرهقة لها.
مِن داخل هذه الفجوة برزت الدعوة الرئاسية لحوار حول السلسلة، تحت عنوان البحث في مختلف أوجه الخلاف والتناقض واختلاف الآراء حيالها، وحيال استحداث بعض الضرائب لتمويلها، وصولاً الى بلورةِ حلٍّ يراعي مصالح جميع اللبنانيين، ووجّهت الدعوة إلى نحو ثلاثين شخصية يمثّلون أطراف الإنتاج وأربابَ العمل والعمّال.
اللافت في موازاة هذه الدعوة، اقترانُها بمواقف صادرة من المحيط القريب لرئاسة الجمهورية، تنطوي على ما يشبه التطمين لفئة معيّنة خلاصتُها «لا نيّة لنسفِ السلسلة، بل نريد إجراء تعديلات عليها». واللافت ايضاً كان تأكيد اصحاب الدعوة على جدّية رئيس الجمهورية في مقاربة هذه المسألة، وكدليل على هذه الجدّية تَقرّر ان يُعقد «حوار السلسلة» حول الطاولة المخصّصة لجلسات مجلس الوزراء.
وبصرفِ النظر عن «الأهمية» التي تُحاط بها الدعوة الرئاسية من قبَل أصحابها، وعن «الجدّية» التي سيُعبَّر عنها بإجلاس المدعوّين إلى طاولة مجلس الوزراء، ثمّة ملاحظتان يمكن اعتبارهما بالغتَي الدلالة، وكذلك أسئلة تَولّدت عن هذه الدعوة.
وأمّا الملاحظة الأولى، فهي أنّ قانون السلسلة إضافةً إلى القانون الضريبي أقِرّا في مجلس النواب بموافقة نواب تكتل الإصلاح والتغيير المرتبط مباشرةً برئيس الجمهورية والتيار الوطني الحر، بحيث صوَّتَ نواب التكتل مع القانونين.
والملاحظة الثانية، هي أنّ موجب الدعوة الرئاسية هو البحث في مختلف أوجهِ الخلاف والتناقض حول السلسلة والضرائب.. وهو أمرٌ تمَّ بحثُه قبل إقرار القانونين من قبَل نوّاب في التكتل وتحديداً في اللجنة النيابية للمال والموازنة مع الصناعيّين والتجّار والمصارف إضافةً إلى الهيئات النقابية ومع ذلك صوّتَ التكتل مع السلسلة والضرائب ولم يسجّل في محضر تلك الجلسة أنّه متحفّظ أو معترض على أيّ مِن القانونين.
– وأمّا الأسئلة، فيتناول أوّلها شكل الدعوة والأطراف المشمولة بها؛ فلماذا لم تشمل الأطراف الأساسية المعنية بالسلسلة، كهيئة التنسيق النقابية، واقتصار الدعوة على مكوّن وحيد من الهيئة (نقابة معلّمي التعليم الخاص) وأولى نتائج هذا الاستبعاد – سواء أكان مقصوداً أو غيرَ مقصود – مسارعة الهيئة إلى إعلان الإضراب اليوم الاثنين في كلّ الإدارات مع التلويح بأن لا بداية للعام الدراسي في المدارس الخاصة والرسمية بما فيها مدارس النازحين ما لم تنشَر السلسلة في الجريدة الرسمية»، يعني ذلك أنّ «حوار السلسلة» في بعبدا يقابله حوار من نوع آخر في الشارع.
علماً أنّ هذه الجهة النقابية، والكلام هنا لمرجع سياسي متحمّس للسلسلة، هي الأساس وتكاد تكون أهمَّ من الاتحاد العمالي العام وتشكّل ثلثَ الشعب، فهؤلاء هم أصحاب العلاقة، ولهم رأيُهم، فلماذا استُبعدوا عن الحوار؟ ولنفرضْ أن خرَج حوار بعبدا بقرارٍ ما، فأيّ قرار هو، بمعزل عن هؤلاء؟ وماذا ستكون نتيجته إنْ جاء مغايراً لِما يريدونه ويطالبون به؟
– السؤال الثاني حول التوقيت؛ لماذا الدعوة إلى هذا الحوار الآن؟ ومن أوحى بها؟ ولماذا لم يتمّ قبل ذلك بل قبل إقرار السلسلة والضرائب في مجلس النواب؟ خصوصاً أنه في حالةٍ كهذه كان يمكن أن يكون الحوار الرئاسي مجدياً، بل عاملاً مساهماً في تضييق الفجوة بين المستفيدين والمتضرّرين، ولكان وفّرَ على الدعوة الرئاسية الوقوع في مِثل ما وقعت فيه الآن، في بحر من الأسئلة وعلامات الاستفهام ولَما أحيطت بمِثل ما أحيطت به من التباسات.
– السؤال الثالث حول القانون، إذ إنّ مجلس النواب أقرّ قانوني السلسلة والضرائب المموِّلة لها، فأيّ رسالة توجّهها الدعوة الرئاسية الى الداخل اللبناني كما إلى الخارج، من خلال إطلاق حوار حول قانون سبقَ أن سلكَ مسارَه التشريعي وأقِرّ في الهيئة العامة لمجلس النواب» فهل انتبَه من نصح باللجوء للحوار إلى أنّ هذه الدعوة تنطوي على إشارة سلبية بأنّ لبنان يعيش حالاً من عدم الاستقرار التشريعي، وأنّ القوانين التي يتمّ إقرارها
– وبعضها بشَقّ النفس – ليست ثابتة بل هي دائمة الاهتزاز وغير مستقرّة؟
وهنا يسجَّل لرئيس مجلس النواب نبيه بري اعتذارُه عن عدم المشاركة في حوار السلسلة في بعبدا، بعضُ المتحمّسين لهذا الحوار لاموا رئيسَ المجلس على عدم مشاركته، وأعطوا اعتذارَه بُعداً سياسياً، واعتبروه خطوةً سلبية تجاه الرئاسة الأولى، فغياب بري في رأي هؤلاء «مفاجئ وبلا أيّ سبب أو مبرّر مقنِع ولم يكن في محلّه»!
لكنّ العارفين يدركون أنّ موقف بري من عدم المشاركة نابعٌ أوّلاً وأخيراً من كونه رئيسَ السلطة التشريعية التي أدّت دورها كاملاً في ما خصَّ درسَ وإقرارَ قانون السلسلة وانتهت مهمّتُها هنا وأحيلَ الأمرُ وفق الأصول الى رئيس الجمهورية للبتِّ بالقانون إمّا بالنشر في الجريدة الرسمية وإمّا بالرد إلى مجلس النواب لإعادة النظر فيه. هذا أمرٌ ينسحب على كلّ القوانين التي يقِرّها المجلس وتُحال إلى الرئاسة الأولى للنشر.
وبالتالي فإنّ مشاركة رئيس المجلس في حوار بعبدا حول قانون أقرّته الهيئة العامة معناها أنه يوجّه ضربةً إلى مجلس النواب في صميم صلاحياته وفي صميم هيبته، ومن هنا فإنّ برّي يَعتبر أنّ مهمّة المجلس رئيساً ونوّاباً انتهت مع إقرار قانوني السلسلة والضرائب. وقد أبلغ أصحابَ الدعوة عندما وجّهت إليه بما مفادُه «نِحنا خلصنا شِغلنا، وما إِلنا شِغل عندكم»
– السؤال الرابع في الدستور والصلاحية الرئاسية؛ هل تنسجم الدعوة الرئاسية إلى حوار حول قانون السلسلة مع نصّ المادة 57 من الدستور؟
المتحمّسون للدعوة الرئاسية لا يرون رابطاً بينها وبين الدستور، خصوصاً أنّ طابعها للاستئناس ببعض الآراء من دون أن يعني ذلك المسَّ بالمادة الدستورية المذكورة وصلاحية رئيس الجمهورية المحدّدة فيها لجهة نشرِ القوانين أو ردِّها إلى المجلس النيابي.
إلّا أنّ لبعضِ الخبراء الدستوريين رأياً آخَر، وفيه:
– إنّ الدعوة إلى الحوار حول قانون محالٍ إلى الرئيس للنشر أو الردّ لا تنسجم مع ما تنصّ عليه المادة 57 من الدستور، إذ إنّ أمام الرئيس طريقين تحدّدهما المادة المذكورة لا ثالث لهما؛ فإمّا أن يوقّع القانون وينشرَه في الجريدة الرسمية وإمّا أن يردّ القانون الى مجلس النواب، وبالتالي فإنّ المادة المذكورة لا تربط القرار الذي سيختاره الرئيس، لا بحوار أو نقاش أو استئناس وغير ذلك.
أكثر من ذلك فإنّ الدعوة، أياً كان الدافع إليها، تُشكّل بشكل أو بآخر، محاولة إشراكٍ لرئيس الجمهورية بما هو من صلاحيته حصراً، ما يعني الانتقاصَ عن قصد أو عن غير قصد من هذه الصلاحية الحصرية.
– إنّ الدعوة إلى الحوار حول قانونٍ محالٍ إلى الرئيس للنشر أو الردّ تُشكّل برغم عدم مفاعيلها الإلزامية – التفافاً على صلاحيات مجلس النواب، إذ كيف يقرّ المجلس قانوناً ويحيله للنشر ومن ثمّ يُعاد طرح هذا القانون على النقاش على طاولة أخرى، لتدليَ فئات معيّنة بآراء حوله، أياً كان حجم ومستوى هذه الفئات؟ علماً أنّ هذه الدعوة هي سابقة لم تحصل لا قبل الطائف ولا بعده.
– السؤال الخامس ماذا سينتج عن حوار السلسلة في بعبدا؟
ثمّة تبايُن واضح حول هذا الأمر بين أطراف مؤيّدة وأطراف معارضة، وهو أمرٌ ليس بجديد، عمرُه من عمر طرح السلسلة للنقاش منذ سنوات، وأمّا الموقف النهائي للرئيس فستَحكمه اعتباراته وقناعاته التي سيترجمها في صلاحياته المنصوص عليها في المادة 57 من الدستور.
– والسؤال السادس؟ ماذا بعد؟
تتوقّف على الخطوة التي سيقدِم عليها رئيس الجمهورية، سواء في نشر قانونَي السلسلة والضرائب أو ردِّهما أو ردّ أحدِهما، صورةُ المشهد الداخلي، إذ لكِلا الخيارين تبعاته وارتداداته.
واضحٌ أنّ عدم نشرِ السلسلة سيخلق جوّاً نقابياً متأزّماً في الشارع، وواضحٌ أيضاً أنّ النشر سيَخلق جوّاً متأزّماً لدى الهيئات الاقتصادية والمصرفية. أمّا إذا قرّر الرئيس ردَّ القانونين أو أحدِهما إلى المجلس فهذا ليس معناه أنّ القانون المردود سيَسلك طريقَه فوراً من بعبدا إلى الهيئة العامة لمجلس النواب للبتّ به فوراً، بل سيحيله رئيس المجلس إلى اللجنة النيابية المختصة لكي تنظر في أسباب الردّ وملاحظات رئيس الجمهورية حول القانون، وهذا سيَستغرق بعض الوقت، وعندما تنتهي اللجنة النيابية المذكورة (المال والموازنة) من مهمتِها يحيل بري الأمر إلى الهيئة العامة للمجلس، فإمّا أن تأخذ بأسباب الرد وتضعَ التعديل الذي ينسجم مع ملاحظات الرئيس، وإمّا أن تصِرّ على الصيغة الأولى للقانون كما أقِرّت في الجلسة التشريعية السابقة فتُعاد إلى رئيس الجمهورية للنشر من جديد وفق ما توجبُه المادة 57 من الدستور.
يبقى أنّ رئيس الجمهورية أمام قرار صعب، هو يقع بين ضغطين؛ ضغط المستفيدين وضغط الهيئات الاقتصادية وأرباب العمل ومؤسسات تربوية كنَسية.
وأمّا الرئيس سعد الحريري فقد حسَم خيارَه مع السلسلة ومصادر تمويلها للحفاظ على الاقتصاد، فيما أجواء عين التينة تؤكّد على ضرورة الحؤول دون حصول مضاعفات سلبية على الأمن الاجتماعي، والرئيس بري يقول: «من الطبيعي ألّا أكون متشائماً، لأنّه «مِش معقول» يردّ الرئيس السلسلة.
ولأنّها حقّ لمستحقّيها ومطلب مزمِن لهم عمرُه سنوات، ولكن ما أؤكّد عليه هو أنّ أمنَ الحدود مطلوب لكنّه على أهمّيته غيرُ كافٍ وحده، لأنّ المطلوب بالدرجة الأولى، هو أمنُ المجتمع الذي أخاف عليه قبل كلّ شيء، وفي أيّ حال لننتظِرْ ونرَ فلعلّه خير».