فتحت الرسالة التي وجهها رئيس الجمهورية الى مجلس النواب، عبر رئيسه نبيه برّي، لتفسير المادة 95 من الدستور، مجدّداً، باباً عريضاً آخر على اشتباك دستوري لا ينتهي فصولاً. لكن فيها ما هو أكثر: يتجاوز مضمونها وظيفتها المنوطة بها
أول غيث رسالة 31 تموز، انها اول رسالة يوجهها رئيس الجمهورية ميشال عون الى مجلس النواب منذ مطلع عهده، الا انها تطرح اكثر من اشكالية دستورية. كذلك فإن تلقف رئيس المجلس نبيه برّي الرسالة وتحديده موعداً لمناقشة البرلمان اياها في تاريخ متأخر هو 17 تشرين الاول، اثار بدوره اكثر من اشكالية. اضف اشكالية عامة تنجم عن توقيت الخوض في تفسير للدستور، لم يسبق للبرلمان منذ اتفاق الطائف ان جرّبه مرة، من غير اغفال مغزى هذا التوقيت وجدواه ثم مآله.
ليست المرة الاولى يطلب عون تفسيراً للدستور. قبل انتخابه رئيساً، في عزّ الفراغ الدستوري، وجه – وكان لا يزال نائباً – رسالة الى برّي في 17 تشرين الثاني 2014 يطلب منه دعوة مجلس النواب الى الاجتماع لتفسير المادة 24، المرتبطة بالمناصفة في مقاعد البرلمان. الا ان رئيس المجلس لم يدعُ الى الجلسة بعد ردود فعل سلبية حيال الرسالة، قائلة باولوية انتخاب الرئيس على اي استحقاق آخر. كذلك كانت ثمة محاولة لم تبصر النور، ذُكر ان رئيس الجمهورية كان في صددها، في كانون الاول 2018، في ذروة مأزق تكليف الرئيس سعد الحريري وتعثر تأليفه الحكومة. طُرحت فكرة توجيه رسالة الى المرجعية الدستورية التي استمد منها الحريري تكليفه، وهي مجلس النواب الذي سمّاه، لمعالجة هذا المأزق. بيد ان السجال من حول الرسالة الرئاسية تلك لم يطل، فصُرف النظر عنها.
ليس ثمة صلة تتيح لرسالة رئيس الجمهورية طلب تفسير الدستور (هيثم الموسوي)
ليست رسالة عون الاولى بين اسلافه، بعدما سبقه الى استخدام هذه الصلاحية المنصوص عليها في الفقرة 10 من المادة 53، والمحدثة في اتفاق الطائف، ثلاثة رؤساء للجمهورية: اولهم الرئيس الياس هراوي في 19 آذار 1998 عندما حض في رسالته مجلس النواب على تأليف الهيئة الوطنية لالغاء الطائفية السياسية. ثانيهم الرئيس اميل لحود في 4 ايار 2005 داعياً المجلس الى وضع قانون جديد للانتخاب تفادياً للعودة الى قانون 2000. ثالثهم الرئيس ميشال سليمان في 21 ايار 2014 قبل اربعة ايام فقط من انتهاء ولايته، طالباً من البرلمان انتخاب خلف له قبل فوات المهلة الدستورية.
على ان رسالة عون تضمنت ما لم يسبق ان فعله اسلافه الثلاثة، متضمنة ما هو ابعد مما نصت عليه الفقرة 10 من المادة 53، عندما اوكلت الى رئيس الجمهورية مخاطبة مجلس النواب، وهو ان يطلب تدخله في كل مرة وجد اخلالاً في اداء السلطات العامة، فيدعو من خلال الرسالة هذه، مباشرة كأن يقرأها الرئيس على النواب في قاعتهم او خطية عبر رئيس المجلس، الى الاضطلاع بدوره لمعالجة هذا الخلل. في الغالب ينبثق الخلل من العلاقة بمجلس الوزراء عندما يقع الخلاف بينه ورئيس الجمهورية أو بين الاخير ورئيس مجلس الوزراء.
على ان غير المألوف في مضمون رسالة عون – وهو ما لا تنصّ عليه الصلاحية هذه – ان تطلب من البرلمان تفسير احدى مواد الدستور. اذذاك تخرج عن وظيفتها الجوهرية.
لأن البرلمان لم يسبق له ان فسّر، منذ اتفاق الطائف، مادة دستورية، نشأت الاشكالية المهمة التي جعلت رسالة رئيس الجمهورية تتجاوز النطاق الذي ترعاه الصلاحية تلك في مخاطبة مجلس النواب، المنوط به هو مرجعية التفسير. مع ان اتفاق الطائف وضع التفسير في عهدة المجلس الدستوري عندما يصير الى انشائه، الا ان جلسة اقرار التعديلات الدستورية في 21 آب 1990، اعادت النظر كلياً في مرجعية هذا الاختصاص، وعُهد به الى البرلمان نفسه، في ضوء رأي كان العالم الدستوري الراحل ادمون رباط ادلى به الى رئيس المجلس حينذاك حسين الحسيني، بناءً على طلبه، وهو ان «كل تفسير للدستور ينطوي على تعديل له».
كانت هذه العبارة المقتضبة كفيلة بأن تحيل تفسير الدستور الى الآلية نفسها التي وضعها الدستور نفسه لتعديله في المادتين 76 (باقتراح من رئيس الجمهورية) و77 (بناءً على طلب مجلس النواب)، وحدد له نصابين موصوفين متتاليين، الثلثان (في مجلس النواب والحكومة) ثم الثلاثة ارباع (3/4 في مجلس النواب). بذلك كمن السبب المباشر في انتقال صلاحية تفسير الدستور من المجلس الدستوري الى مجلس النواب – السلطة المشترعة الأم – في كون اي تفسير يتضمن تعديلاً له، ما يخضعه للآليات المعقدة والجامدة والملزمة.
على نحو كهذا بدت رسالة رئيس الجمهورية، المنادية بتفسير المادة 95، مناقضة تماماً لفحوى الصلاحية التي ترعى توجيهها الى مجلس النواب، خصوصاً وان الفقرة 10 من المادة 53 تتحدث عن توجيه الرسالة «عندما تقتضي الضرورة»، ما يجعل الصلاحية هذه ايضاً مقيّدة بهذا الاستثناء.
منذ رأي رباط 1990: كل تفسير للدستور ينطوي على تعديل
تبعاً لهذا الفصل التام بين توجيه الرسالة وتفسير الدستور، نشأت اشكالية اضافية عندما أرجأ رئيس المجلس موعد مناقشة الرسالة الى 17 تشرين الاول، إذ عملاً بأحكام المادة 145 من النظام الداخلي للبرلمان، يقتضي دعوة المجلس الى الانعقاد بعد ثلاثة ايام فقط من تسلم رئيس المجلس اياها، يصير الى مناقشتها واتخاذ موقف او قرار منها. لا قيد على تلاوة الرسالة مرتبطاً بعقد عادي او استثنائي، بل يسارع البرلمان الى الاطلاع عليها ومناقشتها، وهو واجب ملزم. في ذلك يكمن تحديد برّي موعداً متأخراً الى ما بعد بدء العقد العادي الثاني لمجلس النواب، كي تتلى الرسالة وتناقش. على ان هذه في صدد طلب تفسير الدستور الذي يعني، في نهاية المطاف، تعديلاً له من جهة، فضلاً عن أن الخوض في اي تعديل للدستور – واستطراداً تفسير له – يقتضي طرحه في العقد العادي وفق ما تنص عليه المادة 77.
بيد ان المشكلة الدستورية تراوح هنا مكانها. وإن اطلع المجلس على رسالة الرئيس، فليس له عقد جلسة والخوض في تفسير دستوري ما لم يخضع لآلية المادتين 76 (اقتراح رئيس الجمهورية) و77 (اقتراح نيابي). ذلك يعني ايضاً ان يتبنى المجلس هو اقتراح التعديل ويصدر عنه بداية، ثم يحيل اقتراح التعديل الى الحكومة التي عليها، في الحالين، التقدّم بمشروع قانون دستوري يوافق عليه ثلثا وزرائها، قبل ان يقره مجلس النواب في ما بعد بثلثي اعضائه.
مآل ذلك كله، تبعاً لنطاق الصلاحيات الموزّعة، ليس لرئيس الجمهورية ان يطلب من مجلس النواب تفسير مادة دستورية – مؤداه تعديلها – في معزل عن الحكومة، بما في ذلك اقتراحه هو تعديل المادة المطلوبة.
اما ان تكون الرسالة موقفاً سياسياً، فهذا شأن آخر.