IMLebanon

استراتيجية عون الجديدة: وداعاً للمهادنة

يمكن العونيين أن يستعيدوا رشاقتهم في مهاجمة خصومهم والدفاع

عن أنفسهم بعدما دأب وزراؤهم ونوابهم، في الأشهر الستة الماضية، على الظهور بمظهر الفتيان الودعاء الذين تحمرّ وجوههم خجلاً كلما هاجمهم خصومهم. يمكنهم التصرف على طبيعتهم مجدداً؛ لا استرضاء الرئيس سعد الحريري ضروري للوصول إلى بعبدا، ولا الرئيس نبيه بري. إنها استراتيجية النائب سليمان فرنجية: حين يحين موعد انتخابي رئيساً، سينتخبونني مهما كانت مواقفي السياسي وطبيعة علاقتي الشخصية بهم

قبل أسبوعين فقط، كان يمكن أي عضو في تكتل التغيير والإصلاح أن يوجز الاستراتيجية العونية للفوز بالرئاسة الأولى في ثلاث نقاط: أولاً، تفاهم كامل مع حزب الله يفضي إلى رفض الحزب النقاش بأي اسم غير العماد ميشال عون. ثانياً، استيعاب كبير لتيار المستقبل يسقط الحريريون بنتيجته الفيتو السعودي على عون. ثالثاً، تبديد هواجس الرئيس نبيه بري والنائب وليد جنبلاط.

وقد بدا واضحاً أن العونيين حققوا تقدماً كبيراً في النقطتين الأولى والثالثة: حزب الله حسم سراً وعلانية أن عون الرئيس المستقبلي الوحيد للجمهورية، وجنبلاط بلغ حد قبول عون رئيساً لفترة انتقالية. فيما رفض الوزير جبران باسيل الاستسلام على خط العلاقة العونية – الحريرية برغم كل سلبية المستقبل.

فجأة تغيّر كل شيء. بدل بناء العونيين على ربط الرئيس نبيه بري ميثاقية جلسة التمديد لمجلس النواب بحضور المكوّن المسيحي، نازعاً الصفة التمثيلية عن النواب المسيحيين غير المنضوين في تكتل التغيير والإصلاح والقوات والكتائب والمردة، بما في ذلك عضو كتلته النائب ميشال موسى والنائبان أسعد حردان ومروان فارس، شن الوزير جبران باسيل هجوماً على بري، متسائلاً عما حال دون اكتراثه بالميثاقية قبل ربع قرن. وبرغم النقاش الإيجابي بين عون وبري في حضور نائب رئيس مجلس النواب السابق إيلي الفرزلي قبل ذلك ببضعة أيام، هبّت أوركسترا النواب العونيين ترغي خلف باسيل وتزبد. ولم يجرؤ أحد في جلسة التكتل السابقة لجلسة التمديد أن يقول للجنرال إن حضور نائبين الجلسة والتصويت باسم التكتل ضد التمديد يغنيانه عن أزمة جديدة مع رئيس المجلس لا تخدمه في سباقه الرئاسيّ بشيء. مع العلم أن الطاشناق وجّه رسالة واضحة بهذا الخصوص، من فوق الطاولة. لم يكتف العونيون إثر ذلك بمقاطعة جلسة بري التمديدية، بل انهالوا بأسهمهم عليها. وسرعان ما أخرج الوزيران باسيل وعلي حسن خليل الجمر من تحت الرماد في مجلس الوزراء، محرقين أوراقاً لا علاقة للتمديد النيابي بها من قريب أو بعيد.

تختفي مهارة

رئيس المجلس التفاوضية حين يتعلق الأمر بتيار المستقبل

يمكن عزل ما سبق عن أي سياق سياسي، إلا أن المواكبين لعمل العماد عون يجزمون بعدم وقوعه بعد هذه التجربة الطويلة في هفوات صغيرة. ويشير أحد أعمدة صالون السبت في الرابية إلى أن شخصية الجنرال تحول دون تمكن أحد من قيادته إلى جهة لا يود التوجه نحوها. فالانفتاح على المستقبل كان قراراً عونياً انتدب باسيل نفسه لتحقيقه، لا قراراً باسيلياً ساير عون صهره به. وكذلك انفجار العلاقة العونية – الأملية؛ كان الجنرال لا باسيل من ينتظر شيئاً من بري لقاء ذهابه إلى المجلس النيابي، واستاء الجنرال ـــ لا باسيل ـــ من بري، فقال وزير الخارجية ما قاله سواء في عكار خلال زيارته لها قبيل التمديد أو في مجلس الوزراء بعده. وحتى لا يحرج عون باسيل أمام أصدقائه الجدد، بادر في حديثه مع صحيفة «السفير» إلى الهجوم بنفسه على من يستقلون طائرة للمغادرة حين يقترب التهديد منهم، مستصعباً تخيل تعطيل انتخاب رئيس للجمهورية بقرار من خارج لبنان. وهو ما استوجب في اليوم التالي مجموعة ردود مستقبلية بدا واضحاً أن كاتبها كان ينتظر انتقاداً عونياً صغيراً للحريري حتى يفجر علاقتهما. ليكون الجنرال قد نسف بذلك النقطتين الثانية والثالثة في استراتيجيته للفوز بالرئاسة الأولى، وعاد إلى النقطة الصفر في تعويله حتى إشعار آخر على دعم حزب الله، الذي تقدم في الأسبوع الماضي خطوة إلى الأمام بموازاة تراجع علاقة عون بالحريري وبري (وبالتالي جنبلاط) خطوات إلى الوراء.

عملياً، يقول أحد النواب العونيين، تيقن الجنرال أن مهادنة المستقبل لا تفيد. رأى أمامه مشهد عام 2005؛ هم لا يستوعبون مبدأ الندية ويفهمون أن التسوية السياسية تقتضي أخذهم كل شيء وعدم تنازلهم عن أي شيء؛ فلسفة الطائف. عبثاً تحدثهم عن الشراكة والتعددية وغيرهما؛ هم يريدون نواباً مثل فريد مكاري وعاطف مجدلاني وهادي حبيش؛ كانوا موظفين عندهم أو أطباء في حاشيتهم أو مهرولين لفتح أبواب سياراتهم. جاؤوا بالنائب السابق غطاس الخوري من الشوف لإجلاسه على كرسي بشير الجميل المفترض في الأشرفية، وحين سألوه عن نسبة تمثيله المنخفضة للناخبين المسيحيين، أجابهم: أنا نائب في البرلمان ولست مطراناً للموارنة. يستحيل التفاهم مع من يعتقد أنه قادر على شراء كل شيء: الصحف والمطارنة والسياسيين والمثقفين وكبار الموظفين. استفز عون بصم رئيس المجلس لهم على كل ما يريدونه في مجلس النواب (والوزراء) مقابل اختراعه عراقيل غريبة وعجيبة لخصومهم. كان التمديد «حاجة معلنة ماسة» لقوى 14 آذار، فيما هو مجرد خدمة بالنسبة لـ 8 آذار. ماذا جنت قوى 8 آذار من تمديدها للمجلس؟ لا شيء، يقول النائب العوني. هنا يقدم رئيس المجلس خدمات مجانية. يمكن مخالفة الدستور بالتمديد للمجلس النيابي إكراماً لقوى 14 آذار، لكن لا يمكن إحراج هذه القوى بدعوة المجلس إلى تعديل الدستور إكراماً لعون. لا يمكن مقايضة التمديد للمجلس ولاية كاملة بإقرار القانون الأرثوذكسي أو انتخاب عون رئيساً أو أقله وضع الاقتراحات السابقة على طاولة البحث. تختفي مهارة بري التفاوضية حين يتعلق الأمر بتيار المستقبل. لا يمكنه الإيحاء للعونيين بأنه يحاول؛ مجرد إيحاء. كان يمكنه القول إن حضور التكتل المسيحي الأكبر جلسة التمديد ضروري لحصول التمديد، بعد إفتائه بأن موافقة المستقبل على إجراء الانتخابات ضروري لإجرائها، فيعزز موقع عون التفاوضي، إلا أنه «مغمغ» موقفه بالميثاقية وبتوفير مخارج للمستقبل في حال حضور القوات اللبنانية.تيقن الجنرال أن مهادنة المستقبل لا تفيد ورأى مشهد 2005 يتكرر

ثمة غضب من بري، توازيه ثقة عونية (بحسب أحد نواب عون البعبداويين) بعبثية الحوار مع المستقبل: «هؤلاء لا يعوّل على موقفهم: حين يتخذ القرار الإقليمي بانتخاب عون رئيسا سينتخبون عون رئيساً؛ سيسمي النائب أحمد فتفت أوتوستراد المنية باسمه، وستزغرد له شوارع طرابلس بهمة النائب السابق مصطفى علوش». لم يرسل الرئيس السوري بشار الأسد رسائل «واتس آب» للرئيس سعد الحريري بهدف ترطيب العلاقة قبيل ذهاب الأخير إليه عام 2009. «يكفي أن تقول له السعودية انتخب لينتخب». رأيناهم، يتابع النائب العوني، قبيل التحالف الرباعي وبعده. سمعناهم قبيل تأليف سلام لحكومته ونسمعهم اليوم.

عليه تتقاطع معلومات عدة مواكبين لمزاج الجنرال عند تبدل الاستراتيجية العونية للوصول إلى بعبدا 180 درجة: هناك أولاً اتفاق ثابت ونهائي مع حزب الله على أن يكون عون مرشحه الوحيد لرئاسة الجمهورية، مهما كانت العروض والضغوط. ولا شيء بتاتاً في حسابات العونيين يمكن أن يعوض للحزب خسارته حليف الضراء، لا التفاهم الآني مع تيار المستقبل ولا الإيقاف الآني أو الاستعراضي للتحريض. ووضع انتخاب عون ثانياً في سياق معالجة شاملة للنظام المأزوم طالما يساير رئيس المجلس قوى 14 آذار في رفضها الذهاب إلى مؤتمر تأسيسي، بعدما أثبت اتفاق الطائف عجزه عن تسيير المؤسسات وتوفير تقاسم عادل للسلطة وتفعيل الوزارات وتأمين إنماء متوازن. ولا شك، بالتالي، في أن الخطاب العوني سيشهد في الأيام المقبلة عودة واضحة إلى مفردات 2005، في ظل اقتناع العونيين اليوم بأن مشكلتهم ليست فقط مع تيار المستقبل إنما مع حركة أمل والحزب التقدمي وكل مكونات النظام اللبناني بين عامي 1990 و2005 التي تحاول أن تحافظ على تقاسمها المستمر للسلطة على ما هو عليه، بما في ذلك حصة المسيحيين.

لعب العونيون عبثاً لعبة الخارج بمحاولتهم إقناع الأميركيين بأنهم الأقدر على تحقيق مصالحهم في لبنان. ولعبوا عبثاً لعبة الداخل بمحاولتهم إقناع الحريري وبري وجنبلاط بأن انتخاب عون رئيساً لا يهدد بالضرورة مصالحهم في السلطة. ها هم يتركون لحزب الله مهمة إقناع الخارج والداخل، متكلين على طول صبره. أمام عون مهمة رئيسية واحدة في المدى المنظور: استيعاب البطريرك الماروني بشارة الراعي. وُسّط أحد المطارنة قبيل يومين لإقناعه بالكف عن الترويج لمرشح لرئاسة الجمهورية لا يسع الرابية سماع اسمه. ويعول على مواقفه الأخيرة من النواب الممددين لأنفسهم وتعطيل الانتخابات الرئاسية، ليصار إلى الاتفاق معه على ذهاب جميع النواب إلى المجلس النيابي لانتخاب واحد من مرشحين حصراً إلى الانتخابات الرئاسية: ميشال عون أو سمير جعجع. فيحترم بري الميثاقية بتمزيقه الأوراق التي تحمل أسماء أخرى، مفسحاً المجال أمام تسابق عون وجعجع حصراً، ليتحقق بذلك مطلب الراعي بانتخاب النواب رئيساً، ومطلب عون بعدم انتخاب أي كان رئيساً للجمهورية، ومطالبة جعجع المستمرة لعون بملاقاته في الهيئة العامة.