ثمّة حركة ناشطة في الكواليس في ملفّ رئاسة الجمهورية، وهي حركة جدّية للمرّة الأولى منذ زمنٍ بعيد. وقد تصاعد زخمُها إثر الاعتداء الإرهابي الذي طاولَ بلدةَ القاع المسيحية الحدودية، واكتشاف عمليات أخرى جرى إحباطها، بعضُها كان مسرحه مناطق في العمق المسيحي.
عزَّزت هذه الحركة القناعة الموجودة لدى بعض أركان السلطة بأنّ التيارات المتطرّفة باشرَت مرحلةً جديدة من نشاطها الإرهابي الذي يستند هذه المرّة على استهداف المسيحيين.
طبعاً لم تكن العمليات التي اكتشِفت أو تلك التي نُفّذت هي الدافع الوحيد لهذه القناعة، بل إنّ مؤشّرات أخرى ومعلومات كانت قد وصَلت إلى لبنان، رفعَت من درجة الهواجس والقلق لهذه الناحية.
فخلال المرحلة التي تلت «غزوة» عرسال منذ نحو العامين، وقعَت لدى الجيش اللبناني مخطوطةٌ وُجدت في جيب جثّة أحدِ كوادر تنظيم «داعش»، وتتضمّن هذه المخطوطة المرسومة بخطّ اليد تقدّماً لمجموعات إرهابية من خلال جرود القلمون وعرسال ومن ثمّ التوجّه إلى عكّار فالساحل البحري في شمال لبنان وتحديداً مرفأ طرابلس.
ورُسِمت على المخطوطة إشارات أخرى تشير إلى تقدّم مجموعات أخرى انطلاقاً من محافظة حمص وصولاً إلى الحدود الشمالية للبنان، فعكّار.
يومَها عُزّزت الأوضاع القتالية لوحدات الجيش اللبناني بشكل يتناسب والخطر المرسوم، خصوصاً أنّ هذا الاختراق فيما لو حصَل كان سيَعني تعريضَ العديد من القرى والبلدات للخطر، خصوصاً تلك التي طابعُها مسيحي.
وخلال الأسابيع الماضية التقطَت أجهزة التنصّت الروسية المتطوّرة والموضوعة في القواعد العسكرية الروسية في سوريا، رسائلَ بين المجموعات المتطرّفة التي تقاتل في حلب وقياداتها التي طالبَت بتكثيف قصفِها للأحياء المسيحية داخل حلب وبشكلٍ عنيف وصولاً إلى تدميرها وقتلِ مَن فيها.
هذه الرسائل جرى إيصالُ مضمونها إلى جهات رسمية لبنانية، بهدف التنبُّه للمرحلة الجديدة التي باشرَت بتنفيذها التنظيماتُ المتطرّفة.
فسوريا ولبنان ساحة واحدة، وما يَسري هناك قابلٌ للتنفيذ هنا أيضاً. والأهمّ أنّ الساحة السورية ذاهبة إلى تعقيدات إضافية ستزيد من المخاطر على لبنان، لاعتبار التنظيمات المتطرّفة بأنّه الخاصرة الرخوة.
فمنذ أسبوع اتّفقَت القيادتان الأميركية والروسية على برنامج التعاون العسكري في سوريا. هذا البرنامج حدّد التنظيمات التي ينطبق عليها تعريف الإرهاب ووضِعت ضمن دائرة الاستهداف والعمليات العسكرية.
والأبرز هنا إدراجُ «جبهة النصرة» في خانة التنظيمات الإرهابية، وبالتالي وجوب استهدافها والتعاطي معها كما هو حاصل مع «داعش»، وذلك بعد أشهر عديدة من التجاذب حول هذه النقطة ومحاولة واشنطن التملّصَ بسبب ضغوط عربية.
المهمّ أنّ التفاهم الأميركي – الروسي حظيَ بموافقة رئيس الدولتين ووزيرَي خارجيتهما، وعاد وزير الدفاع الأميركي آشتون كارتر ووافقَ عليه بعد معارضة طويلة له بذريعة أنّ البرنامج سيؤدي إلى زوال كلّ المجموعات المعارضة القادرة فعلياً على إطاحة الرئيس بشّار الأسد عن الحكم.
هذا التفاهم الذي دخلَ حيّز التنفيذ وضَع «النصرة» في صفّ «داعش» وفتحَ باب «الانتقام» أمامهما.
وقبل ساعات من إقرار التعاون الأمني الأميركي – الروسي كانت مجموعة من ثمانية انتحاريين تُنفّذ اعتداءات إرهابية داخل بلدة القاع المسيحية الحدودية.
إعتداءات كانت تستهدف بشكل مزدوج عناصرَ من الجيش اللبناني وأبناء القاع. ولكنّ اللافت أنّ هذه التفجيرات الإرهابية ولو أنّ العدد الذي نفّذها كان كبيراً ووصَل إلى ثمانية انتحاريين، لكن بدا كأنّه جرى إقراره وتنفيذُه على عجَل مِن دون إشباعه درساً.
وفي مطلع الأسبوع الماضي، اغتالت «داعش» رجلَ دينٍ مسيحياً في مصر، أهمّية الاغتيال تبقى رمزيته.
هناك اعتقاد على صعيد واسع أنّ التنظيمات الإرهابية التي باشرَت بمشروعها الجديد، تريد فتحَ آفاق «جهادية» جديدة، وإحداثَ ضجيج إعلاميّ كبير، والضغط على واشنطن وموسكو ظنّاً منها أنّها قادرة على الضغط عليهما انطلاقاً من الجسم المسيحي ووضعهما أمام خطر إفراغ الشرق من مسيحيّيه.
إنطلاقاً من هذا الواقع، جاء مَن يرى في استمرار الفراغ الرئاسي عاملاً مساعداً للخطر الإرهابي.
وبدا «حزب الله» مقتنعاً بوجهة النظر هذه، وبأنّه آنَ الأوان لإنهاء الشغور الرئاسي، موجّهاً رسائلَ بالواسطة إلى الرئيس سعد الحريري لإتمام انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية. لا بل أكثر، ذهبَ من يتحدّث عن أنّ إعادة بعض الصلاحيات إلى رئاسة الجمهورية، إضافةً إلى فتح أبواب قصر بعبدا سيُعطي دفعاً معنوياً كبيراً للمسيحيين بشكل يَجعلهم قادرين على مواجهة المخاطر المرسومة.
في هذا الوقت كانت لقاءات ثنائية تُعقد بين الوزير جبران باسيل ومدير مكتب الرئيس سعد الحريري، نادر الحريري، خارج لبنان، تجنّباً لانكشافها أمام وسائل الإعلام.
وشكّلت خطوة «التفاهم النفطي» بين الرئيس نبيه برّي وباسيل، على رغم الكيمياء المفقودة بينهما، مؤشّراً إضافياً لوجود دافع سياسي ومناخ غير مؤاتٍ غير منظور إلى جانب الأسباب الاقتصادية الملِحّة. كما أنّ سكوت الحريري دليلٌ على نجاح الخط الخلفي المفتوح من خلال باسيل ونادر الحريري. إتّفاق نفطيّ يرضي برّي وكذلك الحريري ويفتح أبواب قصر بعبدا.
وخلال لقاء الرئيس الحريري بأحد المسؤولين الأمنيين اللبنانيين الكبار والذي يتولّى إنضاجَ هذا الملفّ عبر نقلِ وجهات النظر والأفكار بسرّية مطلقة، بدا الحريري مستمعاً معظم الوقت ومكتفياً بالقول بعد إفراغ ضيفه كلَّ ما لديه: سنرى.
لكنّ رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع الذي شعرَ بالحركة الناشطة في الكواليس في ملفّ رئاسة الجمهورية التقى رئيس «اللقاء الديموقراطي» النائب وليد جنبلاط، أوّلاً بهدف استكشاف جدّية مواقفِه الأخيرة وطروحاته.
وقد سمعَ إصرارَ جنبلاط على أيّ حلّ يُجنّب لبنان الانحدارَ بسرعة إلى خيار المؤتمر التأسيسي، لكنّه لن يتحرّك من دون غطاء السنّة والسعودية، ولن يكرّر خطأ وصولِ الرئيس نجيب ميقاتي إلى رئاسة الحكومة.
ثمّ قصَد جعجع الحريري سعياً وراء اقتناص دور «العرّاب» طالما إنّ الامور تقدّمت كثيراً، ولا سيّما أنّ همساً يدور حول حماسة وزير الداخلية نهاد المشنوق وغيره للسلّة المختصرة التي تشمل رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة وقانوناً جديداً للانتخابات يَشترطه «حزب الله».
لكنّ مزاجَ الحريري تبدّل، وتراجَع منسوب التفاؤل خلال سحور «الثلاث ساعات». فكان واضحاً برفضِه فكرةَ وصول عون إلى قصر بعبدا. وكان واضحاً أنّ الأيام التي فصَلت بين لقائه المسؤول اللبناني الذي لعبَ دورَ الوساطة وحملَ العرض وبين لقائه جعجع سَمحت للحريري بالتشاور الذي قد يكون طاولَ السعودية، وجَعله يتمسّك بموقفٍ رافض.
وجاءت زيارة الحريري إلى السعودية واستضافتُه إلى مائدة العاهل السعودي في حضور ضيوف رسميين كبار للمرّة الأولى منذ استلام الملك سلمان بن عبد العزيز مقاليدَ السلطة، بمثابة الإشارة الواضحة إلى أنّ الحريري استعاد رمزية موقعِه بعد لغطٍ كثير ساد، إضافةً إلى قربِ إنجاز الملفّ المالي العالق، وبالتالي إنهاء مسألة ديون مؤسّساته قريباً.
وهو ما يعني تأييدَ المملكة قرارَ الحريري برفض عون، خصوصاً أنّ البعض نَقل عن المسؤولين السعوديين الكبار أنّ اللبنانيين أحرار بانتخاب من يريدون «لكنّنا سنتعامل بما يتناسب ووفقَ نظرتنا في إطار الصراع المفتوح مع إيران».
وخلال السحور، قال الحريري لجعجع إنّه غير قادر بصراحة على تسويق عون رئيساً للجمهورية لدى الشارع السنّي، وأنّ تسويق رئيس تيار «المردة» النائب سليمان فرنجية أقلّ صعوبةً بكثير.
وأضاف الحريري: «كان من الممكن تمرير ذلك في السابق لكنّك اعترضتَ وأجهضتَ الحوار الذي كان قائماً بيني وبين عون. أمّا اليوم فالظروف والأوضاع تغيّرَت كثيراً ولا أستطيع تأمين الغطاء السنّي المطلوب. ولكنّني ملتزم موقفي بدعوة الجميع للنزول إلى مجلس النواب وليربح مَن يربح».
لكنَّ الجميع يدرك أنّ المسألة ليست مسألة أرقام، بل مسألة توافق سياسي عريض.
رغم ذلك بقيَ «حزب الله» متفائلاً باحتمال حصول خرقٍ رئاسي لصالح عون، وهو يتحضر لإجراء تفاهمات واضحة ومحدّدة معه في شأن التوازنات داخل السلطة بعد وصوله إلى بعبدا.
وقد يكون هناك مَن يحسب على أساس التطوّرات الخطيرة التي تدور في سوريا وتهدّد لبنان والساحة المسيحية، والتي قد تؤدّي إلى جعلِ المواقف أكثرَ مرونةً تحت أعباء الأخطار «الوجودية».