رسمياً، دخلت منطقة الشرق الأوسط في مرحلة تاريخية جديدة مع إقرار الولايات المتحدة الأميركية برفع العقوبات المفروضة على إيران منذ قيام الثورة الإسلامية.
صحيح أنّ كلّ ذلك يحصل وفق البرنامج الذي كان قد أُعدّ سابقاً مع إنجاز التفاهم على البرنامج النووي الإيراني، لكنّ الدخول عملياً في المراحل التطبيقية يُعطي دفعاً قوياً والتزاماً واضحاً بالمرحلة الجديدة والركائز التي تستند عليها والتي تقوم في أبرز بنودها على الدور المحوري لطهران في المنطقة للعقود المقبلة.
وقبل أيام قال الرئيس الأميركي باراك أوباما في خطابه الأخير حول الاتحاد إنّ الصراع في الشرق الأوسط سيستمر خلال الأجيال المقبلة.
والواضح أنّه كان يقصد تلك التحوّلات الكبرى التي تصيب المنطقة والتي ستستمر، ولكن هذه المرة على أساس أنّ ايران لم تعُد جزءاً من المشكلة بل باتت جزءاً من الحلّ، ولهذا معناه العميق والكبير.
وفيما تعمل إدارة أوباما على تثبيت دعائم هذا الاتفاق لا بل هذا التحوّل الكبير في سياستها تجاه المنطقة، جاءت حادثة اعتقال البحّارة الاميركيين بمثابة الدليل الثابت على قوّة الاتفاق وثباته.
ففيما استغلّ خصوم أوباما من المرشّحين الجمهوريين الصورة القاسية للجنود الاميركيين وهم يركعون لحظة استسلامهم، على اساس أنّ هذه الصورة تختصر الواقعَ المذلّ الذي أضحَت عليه بلاده، كان ردّ الإدارة بأنّ ما حصل يؤكّد صوابية القرار بالتفاهم مع طهران صاحبة القدرات العسكرية الكبيرة والقادرة على تهديد المصالح الاميركية فيما لو أرادت المشاكسة، وهي معزّزة بالسلاح النووي.
هذا السجال الذي ساد وسائلَ الإعلام الاميركية خلال الايام الماضية لم يكن الوحيد. فكلام أوباما بأنّ داعش «لا يمثّل تهديداً للأمن القومي الاميركي» أخَذ بدوره مداه من الجدل لجهة المقصود منه. ففي التسويق الداخلي قيل إنّ هدفَ أوباما كان في إطار مناهضة انتشار السلاح بين أيدي الاميركيين، ما يؤدّي إلى كوارث داخلية.
لكنّ التفسير الخارجي لهذا الكلام جاء على أساس أنّ الحرب البرّية ضدّ «داعش» لا تزال بعيدة، وهي متروكة للوافد الجديد الى البيت الابيض، كون المصالح الاميركية لا تزال تحتاج الى «خدمات» هذا التنظيم الارهابي، وبالتالي فإنّ عدم كلام أوباما يأتي في إطار عدم تجييش الشارع الاميركي ضد «داعش» الى الدرجة القصوى التي تتطلّب معالجة فورية.
في هذا الوقت، يندفع النظام السوري بالتحالف مع إيران و»حزب الله» وروسيا في السيطرة على مزيد من المناطق الأساسية وتوسيع إطار «سوريا المفيدة» قبل الانطلاق في مفاوضات جدّية تعكس التوازنات الجديدة. وما من شكّ في أنّ كلام أوباما جاء كمَن ينتظر هذه الورشة العسكرية.
وبعد 94 يوماً من القصف المتواصل، نجَح الجيش السوري النظامي في السيطرة على بلدة سلمى التي تمتاز بأهمّية استراتيجية كبرى، بعد سيطرة الفصائل المعارضة عليها لأربع سنوات. وبعد سلمى، من الواضح أنّ جسر الشغور هو المحطة التالية، ليتمّ معها إقفال اللاذقية والمناطق المحاذية لتركيا.
وفي هذا الوقت تستمر لعبة قضمِ المناطق في ريف حلب تمهيداً للسيطرة على المدينة خلال الأشهر المقبلة. الخبَراء العسكريون الغربيون يعتقدون أنّ حلب ستكون مكلِفة جداً على مستوى العناصر البشرية، لكنّ النظام السوري يبدو مصِرّاً على السيطرة عليها وتأمين شبكة المواصلات البرّية قبل الشروع الجدّي في المفاوضات، وقد وضع لذلك مهلة زمنية تصل الى ابواب فصل الصيف المقبل، وخلال تلك الفترة ستكون المفاوضات شكلية على أن يؤدّي ذلك لاحقاً إلى إعادة ترتيب الأحجام وتبريد بعض الرؤوس الحامية والمطالب غير الواقعية. ووسط ذلك سيتحرّك «داعش»، أو بدأ فعلياً، لتوجيه رسائله الإرهابية يميناً ويساراً.
وجاء كلام قائد الجيش الأميركي في الشرق الأوسط الجنرال لويد اوستن ليؤكّد ذلك. فهو اعتبَر أنّ هذا التنظيم سيَعمل على تنفيذ عملياته الإرهابية في أيّ مكان لتعويض خسائره العسكرية.
وبالطبع تبقى الساحة اللبنانية واحدةً مِن تلك المناطق التي «تُقوّي داعش». فالانقسامات السياسية والشلل على مستوى السلطة السياسية تُضاعف من عوامل جذب التنظيم. وجاء إطلاق ميشال سماحة ليشعلَ سجالاً حادّاً ويدفع في هذا الاتجاه.
وقيل إنّ «توقيت» القرار بإطلاق سماحة كان يَهدف لإحراج المبادرة الرئاسية للرئيس سعد الحريري وبالتالي وضعها جانباً. وقد نجَح إطلاق سماحة في تأدية هذه المهمة ولو جزئياً، بدليل الكلام الصادر عن المعتصمين والمعترضين على هذه الخطوة.
وكان لافتاً الموقف الذي صدرَ عن رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع. ولأنّ خطوةَ ترشيح جعجع للعماد ميشال عون مرتبطة مباشرةً بترشيح النائب سليمان فرنجية، أرجئت زيارة عون إلى معراب التي كانت مقرّرة السبت الماضي إلى موعد لاحق.
لكنّ التسريبات الصادرة من باريس والمصحوبة بتحليلات و»توَجُّسات»، لا تزال تقلِق معراب والرابية على حدٍّ سواء.
فصحيح أنّ لبنان ليس أولوية على الأجندة الدولية، وبالتالي فإنّ العواصم الكبرى لا تبدو متفرّغة لإنجاز هذا الملف، لكنّها تريد إنجاز تسوية حول الملف الرئاسي قبل الشروع في المفاوضات الجدّية حول سوريا، أي قبل فصل الصيف المقبل. وخشية المعترضين من حركة لبنانية ضاغطة، قد تدفَع لجعل المسألة أمراً واقعاً.
وقبلَ سفر فرنجية إلى باريس، جرى وضعُ «حزب الله» في أجواء الرحلة. واللافت أنّ وسائلَ الإعلام ضجّت بتسريبات عن حصول اللقاء قبل انعقاده فعلياً، وقد يكون ذلك بمثابة إشارة اعتراضية مرّة جديدة.
في المقابل، تشَعّبَت التحليلات على خط تواصل الرابية – معراب عمّا يُخطّط له في باريس. فلماذا هذه الزيارة الطويلة ولماذا تلك اللقاءات العديدة وما هو جدول أعمالها؟
وتَردّد أنّ جيلبير شاغوري يسعى لتأمين زيارة لفرنجية إلى الفاتيكان، على أن يوافيَه إلى هناك البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي على أمل أن يكون فرنجية قد حظيَ بمباركة ودعمِ عاصمة الكثلكة في العالم، والتي تريد حصولَ انتخابات رئاسية بأيّ ثمن.
وقيل إنّ التواصل بين عون وجعجع بحثَ في هذا الاحتمال، وأنّه عند التأكّد من تحديد موعد للزيارة، سينتقل عون إلى معراب للقاء جعجع الذي سيُعلن تأييدَ ترشيح عون للرئاسة، لتأتيَ الخطوة بمثابة قطعِ الطريق على فرنجية وإجهاض زيارته إلى الفاتيكان قبل أن تحصل، تماماً كما جاءت استقالة الحكومة عام 2010 قبل دخول الرئيس سعد الحريري إلى البيت الأبيض.
ويَعمل جعجع على إنجاز كامل التحضيرات لقواعده الشعبية وكوادره الحزبية بشكل يَسمح له بالتحرّك فور تطلّبِ ذلك. أضِف إلى ذلك أنّ باريس التي ستستقبل الرئيس الإيراني حسن روحاني نهاية هذا الشهر ستعمل على استخدام كلّ أوراقها لدفعِ إيران على مساعدتها في هذا الاتّجاه من خلال علاقتها مع «حزب الله».