هي المرة الأولى التي أجلس فيها لأكتب عن عيد المقاومة والتحرير، وأشعر بالعجز.
على مدى أسبوع كامل، منذ تواصل معي الزملاء في الجريدة لأكتب، وأنا أحاول يومياً أن أفعل ولا أنجح. كيف أكتب عن أجمل أيام حياتي، في أسوأ ظرف يمرّ به لبنان؟ أكتب عن تخلّصنا من قوات احتلال مجرمة، فيما نحن واقعون في براثن عصابة تذلّنا، وتسرقنا، وتتحكم فينا. أكتب عن انتصارنا على وقاحة محتلين وعملائهم، فيما يتنافس “زعماؤنا” على حصد المرتبة الأولى في انعدام الحياء.
منذ تحرّر الجنوب في العام 2000، وحكايات أهله والمقاومين الذين أسهموا في تحريره، هي التي تستعاد في مثل هذه الأيام. نتذكر محطات لافتة، ونروح نبحث عن أبطالها الذين اختاروا الحياة في الظلّ راضين بما حققوه. أرادوا البقاء في أرضهم والعيش بكرامة. لم يهاجروا طمعاً في جنسية ولم يتعاملوا مع الاحتلال فيحصلوا على سلطة، بل بقوا في بيوتهم، وقاوموا فيها، متحمّلين مختلف أنواع العذاب.
الباحث عمن بقي منهم أحياء اليوم، لن يجدهم كما تركهم قبل عشرين عاماً، ولا قبل عشرة أعوام، ولا حتى قبل عامين. شيء من بريق العيون انطفأ. من انتصروا على المحتل الإسرائيلي، تقهرهم اليوم عصابات بلادهم المتواطئة عليهم. سلبتهم لقمة عيشهم، ومستقبل أولادهم، وقبل وقت غير قصير داست كراماتهم مهرّبة الجزّار الذي نكّل بهم إلى خارج الحدود.
أما من غادرونا، فلو عدنا إلى خارطة الجنوب، ووضعنا نقطة حمراء عند كل نقطة استشهد فيها مقاوم، لما عادت هناك خارطة، ولكن طيف وردة حمراء. وردة حلم أصحابها بتراب محرّر، يعيش فوقه إنسان محرّر، ينعم بالحرية وبالعدالة. حرية ينتفي معها أن يكون المواطن تابعاً لزعيم هنا أو هناك، وعدالة يشعر معها الجميع بأنهم سواسية أمام الحق، أمام قانون يجمعهم. هذه وصية كتبها الشهداء بأمانيهم وآمالهم وأفكارهم وهم يريقون دماءهم ويرتقون بإراقتها.
كتبوها في بيروت، في خلدة، في صيدا، في صور، في النبطية، في إقليم التفاح، في كفرا، في ياطر، في سُجُد، في مرجعيون، في بنت جبيل، في الخيام، في كفركلا، في بني حيان، عند كل حاجز إسرائيلي، وكل موقع عسكري، وكل طريق سلكتها دبابة للاحتلال أو داستها أقدام جنوده.
فأين نحن اليوم من هذه الوصية؟
قيل: المُلك يبقى مع الكفر، ولا يبقى مع الظلم.
فكيف إذا اجتمع الظلم والكفر معاً. حينها يستحيل الإنسان شبه إنسان.
أن تعتذر طالبة من أستاذها لعدم قدرتها على متابعة المحاضرات لأنها لا تملك أجرة الطريق. وأن يفصَل أب من عمله ليجلس في البيت جنباً إلى جنب مع ابنه العاطل من العمل. وأن تحتار أم كيف تطعم أولادها، وما بين يديها من مال لا يشتري حامضتين وحبتي بندورة. أن يكثر المتسوّلون في الشوارع، وأن يفقد المريض قدرته على العلاج، ويسقط في أيدي الأهل فلا ينجحون في تعليم أولادهم، وأن تهدّد عصابات الأحزاب كلّ من تسوّل له نفسه كتابة عبارة يُنتقد فيها زعيم.
هذا ما لم يحلم به المقاومون يوماً، وهم الفقراء في غالبيتهم. لم تعد المشكلة في الفقر فحسب، بل في إفقار تنافس على تحقيقه القهر والظلم مجتمعين.
لقد كان بودي اليوم أن أروي قصصكم أيها المقاومون الثوّار وبطولاتكم التي أعشق. استعدت عملياتكم النوعية، بحثت في وصاياكم، تذكرت مقابلاتي مع أهاليكم، زياراتي لبيوتكم المتواضعة، مشاركتي إياكم الخبز والملح، لكن أحلامكم الأرجوانية أخذتني فانحزت إليها وقلت فلأكتب عنها.
وعندما أردت أن أتحدث عن أحلامكم وجمال اللون المصبوغة به، سلبتني مرارة الواقع قدرة الحديث عنها.
أرجو منكم السماح، لكن عزائي في أنكم ترون وتسمعون وتعذرون، وأنكم لا تزالون تأملون، وأنكم أحياء عند ربكم ترزقون.
من ملف : 20 عاماً على التحرير: العام المقبل في القدس!