IMLebanon

نداء بكركي وثيقة للبنان بمكوناته

شاء السادة المطارنة الموارنة برئاسة السيد البطريرك مار بشارة بطرس الراعي للكنيسة المارونيّة وللمسيحيين بصورة عامّة نداء رأى كثيرون أنه أكثر من بيان ونداء أي يرقى إلى مستوى وثيقة وطنية قادرة على أن تحفر عميقًا في قلب الأزمة وتساهم بترميم الجمهوريّة اللبنانيّة وفقًا للتوصيفات والمواصفات الظاهرة في متن البيان – النداء.

ليس البيان مصوغًا للردّ على أحد وبخاصّة الرئيس نبيه برّي، كما أعرب أحد المطارنة الأساسيين في المجمع، وما كان هذا هدفًا قائمًا عند المطارنة أو السيّد البطريرك، بل الهدف إبداء قراءة نقديّة لمسّار يتدحرج بالبلد نحو الهاوية، بكلّ المعايير السياسيّة والأمنيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة. والمسار سببه ارتضاء واستلذاذ الجميع التمديد لكلّ شيء والفراغ في موقع الرئاسة، ضاربين بعرض الحائط المصلحة العامّة وأنين الناس وحاجاتهم إلى الرغد والاستقرار. لم يسر البيان على ضفاف الأزمة الكيانيّة، وهي ليست مجرّد أزمة حكم وحكومة بل أزمة جمهوريّة، وأزمة الحكم والحكومة تمتمة حقيقيّة للأزمة الوجوديّة والأزمة الوجوديّة استمداد لأزمة المنطقة برمتها. بل دخل جوفها ولامس جراحها وشخّص عوارضها، وتلازم في ما أعلنه مع الحديث الهادئ للعماد ميشال عون، وبخاصّة في مدّ الجسور لكلّ المكوّنات حتى تلتقي على مفترق واحد يقود إلى جسر واحد وهو إتمام الانتخابات بعد إنضاج ظروفها وتركيز أسسها، فتصليب الجسور من تركيز الأسس، والأهم بأنّ الرئيس نبيه برّي قد تلاقى مع بيان المطارنة بكلّ مندرجاته واعتبره جوهر سلّته للبلوغ إلى جمهورية سويّة للجميع.

ما هو لافت أنّ بيان المطارنة ركّز على اتفاق الطائف والدستور، من منطلق عظة البطريرك يوم الأحد. لقد تلازم البيان بحرصه في البند الأوّل منه أي التقيّد بالدستور مع حديث العماد ميشال عون أمس الأول في الـOTV  لقد أكّد عون مجدّدًا على المسلمات الدستوريّة ورفض أي التفاف عليها، وهذا عينًا ما ظهر في البيان في البند الأوّل منذ بالتأكيد على عظة البطريرك بشان التقيّد بالدستور «الذي تصاغ مواد مبادئه، نصًّا وروحًا، جميع التفاهمات الرامية إلى اللالتزام بهذه المبادئ الدستوريّة في انتخاب رئيس للجمهوريّة من دون أن توضع شروط مسبقة». لكنّ تفسير المادة 49 من الدستور من قبل مجمع المطارنة يحتمل النقد بعض الشيء، فهي تصف رئيس الجمهوريّة على النحو التالي: «رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن. يسهر على احترام الدستور والمحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه وفقاً لأحكام الدستور. يرأس المجلس الأعلى للدفاع وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة التي تخضع لسلطة مجلس الوزراء». تفسير كلمة الرمز كما لفت مرجع دستوريّ غير خاضعة للتأويل بجذبها إلى مفهوم الحكم أيArbitre  ذلك أنّ الميثاقيّة المتجليّة من التأكيد على وحدة الوطن ورئيس الجمهوريّة رمزها تفترض به أن يكون عادلاً وليس حكمًا، فالعدل فيه شرط لكي يسهر على احترام الدستور والمحافظة على استقلال لبنان (أي أنه يتصف بصفة الحاكم العادل) ووحدته وسلامة أراضيه. وقد قال أحد المطارنة مازحًا بأنّه حكم بلا (صفّيرة)، اي لا يملك إمكانية الحكم على اللاعبين. ومن يطالع المادة 53 من الدستور يلاحظ بأن رئيس الجمهوريّة ولو بالحدّ الأدنى يملك صلاحيات وإن احتاجت لبعض التعديلات في علاقته بمجلس الوزراء، المسألة لم تكن يومًا في الدستور وهذا ما شكت منه بكركي ويشكو منه معظم المسيحيين، الخطورة بالانقلاب الخطير الذي حصل على الطائف كما كتب الدكتور ألبير منصور، فحول الدستور من مؤسّسة نصيّة ناظمة للمؤسسات، إلى «وجهة نظر»، مع العلم أنّ الدول الراقية في القانون الدستوريّ وفي الفكر السياسيّ تتسّلح بمنهج التطوير والتعديل حيث ترى ذلك مناسبًا وتأبى التأبد والتجلّد في حرفية ماضويّة قاتلة.

بالعودة إلى النصّ وإلى السلوكيات المتفرعة منه. تقول بعض المعلومات بأن البطريرك شاء هذا النداء وثيقة جديدة لا تخصّ المسيحيين بصورة عامة ولا الموارنة، بل تخصّ لبنان بمكوناته، البطريرك مهجوس في الآونة الأخيرة بالتطورات العاصفة في سوريا وتداعياتها الخطيرة المنعكسة سلباً على المربّع السوريّ – الأردنيّ – العراقيّ – اللبنانيّ. وتقول المعلومات عينها بأنّ البطريرك استمدّ قلقه من الزيارات التي قام بها إلى تلك المدن والتماسه الواقع على الأرض، ويخشى من أن تتحوّل مسألة النازحين السوريين كما اللاجئين الفلسطينيين إلى قنبلة تنفجر تباعًا لتقود نحو حالات سلبية مخلّة بالأمن ومخلخلة للتركيبة الداخليّة. ويعتقد السيد البطريرك وبحسب تلك المعلومات بأنّ حلّ مسألة النازحين تتمّ بحلّ الأزمة في سوريا، وإيجاد تسوية تاريخيّة لها، وما سوى ذلك مضيعة للوقت وإطالة للأزمة بحيث تفتح امامها مجموعة جبهات. الحلّ عنده ان يشرّع النواب إلى انتخاب رئيس للجمهوريّة ميثاقي الوجه والوهج والنهج ما جاء في وثيقة بكركي الوطنيّة الشهيرة. فالرئيس طاله من الشريعة أي من الكتاب، والكتاب دستور وميثاق، حافظًا بسهره التعدديّة السياسيّة، ومحافظًا على الحقوق والواجبات، ومتطلّعًا دومًا على تكريس الشراكة الفعليّة بين جميع المكونات المكونة للبنان.

لكن الميثاقيّة وبحسب ما يقراها البطريرك ويلتقي في تفسيرها مع عدد من القادة السياسيين كالعماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع والأستاذ إيلي الفرزلي، لا تفترض أن يبقى موقع الرئيس وموقع الرئاسة تحت أيدي وكلاء ووسطاء، ويؤكّد البطريرك بحسب تلك المعلومات بأنّ الكيل قد طفح من الممارسات الشاذة بحقّ المسيحيين المزدرية بهم، ويرى بأنّ الحلّ الجذريّ يتأمّن بالمناصفة الفعليّة، وقد أظهر ذلك في بيان المطارنة إذ رفض مع المطارنة أن يكون قانون الانتخابات «مفصّلاً بإحكام ليعيد إنتاج ما هو قائم» وهذا تأكيد منه على روح المادة 24 من الدستور المشيرة إلى المناصفة على النحو التالي: «يتألّف مجلس النواب من نواب منتخبين يكون عددهم وكيفيّة انتخابهم وفقًا لقوانين الانتخاب المرعية الإجراء. وإلى أن يضع مجلس النواب قانون انتخاب خارج القيد الطائفيّ، توزّع المقاعد النيابيّة وفقًا للقواعد الآتية:

أ- بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين.

ب- نسبيًّا بين طوائف كلّ من الفئتين.

ج- نسبيًّا بين المناطق».

بمعنى أن البطريرك مع المطارنة رأوا بأن انتهاك الميثاقيّة انتهاك وهتك لمنطوق تلك المادة عينًا لكون التساوي والنسبيّة اساسان جوهريًّا لتثبيت التعدديّة ضمن إطار متوازن ساع إلى حالة تطويريّة لآلية العمل السياسيّ اللبنانيّ، وما يؤمنه هو قانون للانتخابات يضم المناصفة والنسبيّة حتى البلوغ إلى المادة 95 من الدستور وفيها تكون المناصفة طريقًا لإلغاء الطائفيّة السياسيّة ليتحرر الجميع من القيد الطائفيّ.

وبعد، البيان النداء، أعاد الروح إلى وثيقة بكركي الوطنيّة الصادرة بتاريخ 9 شباط 2014، الإشكالية أن المطارنة الموارنة تاخّروا في التقييم في اللحظة الجوهريّة التي يقاتل المسيحيون فيها وعلى رأسهم القوى المسيحية لتوطيد الميثاق من منطلق التأكيد على الديموقراطية التشاركيّة، أن تأتي الأمور متأخرة أفضل بكثير من ان لا تأتي ابدًا. البيان – النداء ليس مجرّد محاولة بل هو مواكبة رصينة للمساعي المبذولة للوصول إلى انتخاب رئيس للجمهوريّة بالتأكيد على أن يتبوّأ من يمثّل الوجدان المسيحيّ بأكثريّته المطلقة رئاسة الجمهوريّة ويتبوّأ رئاسة المجلس النيابيّ من يمثّل الوجدان الشيعيّ، ويتبوّأ من يمثّل الوجدان السنيّ بأكثريته المطلقة رئاسة مجلس الوزراء. قد تنجح المبادرة التي تلقفها الرئيس سعد الحريري بشقيها الداخليّ والخارجيّ، وهذا ما تسعى اليه بكركي، غير أن بعض المصادر لفتها قول وزير الخارجيّة الروسيّ سيرغي لافروف بأنّ ثمة تباينًا باديًا في التوصيف، وقد توقّف طويلاً عند نقده لسلاح حزب الله، السؤال المطروح لم يعد محصورًا في السياق التمثيليّ بل بات مصبوبًا في المضمون السياسيّ. ذلك أن حديث العماد عون وإن أظهر ليونة ومرونة ولكنه حافظ على مواقفه الجوهريّة، كذلك فعل الرئيس سعد الحريري، والبطريرك الراعي حائر وقد أطلق نداءه مسهّلاً وواضعًا القطار على السكّة. ليس السؤال بأن يحصل الانتخاب وقد ظهر عون في حديثه رجل دولة وظهرت بكركي كحامية للميثاق وضامنة له، السؤال هل ينجح عون والحريري في الاتفاق على المسلّمات السياسيّة التي ستكون مضمون مرحلة ما بعد الانتخابات الرئاسيّة؟ هذا هو التحدّي الكبير والتحدّي بجواب واضح وصريح حتّى نعبر من أزمة إلى أخرى ويصير لبنان ضحية لتراكم الأزمات الناشئة من صراع الآلهة التراجيديّ على أرضه فتبدو أرضًا يبابًا The wast land  كما في رواية توماس إليوت الشعريّة.