Site icon IMLebanon

«آبل» وتنصت إسرائيل و … إرهابيو حمص

كلام في السياسة | 

أربعون سنة على «آبل». هي ذكرى كان لها أن تؤرخ سخافة أو معجزة. كان لها أن تكون أربعين سنة على «سكرة» ثلاثة مدمنين في مرأب منزل في كاليفورنيا. أو أن تصير أربعين سنة على أروع باب فتح على تكنولوجيا المعلومات والتواصل في تاريخ البشرية… الفارق بين الاحتمالين كان رجلاً مزيجاً بين الجنون والعبقرية، اسمه ــ القانوني ــ ستيف جوبز.

لا ضرورة في المناسبة لإعادة سرد سيرة جوبز. صارت مروية أكثر من أيام عمره القصير. تزيدها تكراراً ملايين التعليقات على صفحة ذكراه الرسمية على موقع «آبل». صفحة أجمل ما فيها أنها تشعرك بحياة الرجل، حين تدفق الكلمات كل ثانية. كأنه ما رحل. أو كأنه يحاور ملايين مستذكريه كل ثانية… وحدها بعض الأفكار العالقة في الذاكرة الحية والذهن النقدي، تصلح لإحياء المناسبة.

فكرة أولى حول المفارقة ــ الانتقام، بين الجامعة والعبقرية. طبعاً ليست ثابتة ولا قاعدة. وقد يكون عباقرة المجال المعلوماتي مجرد استثنائها. لكنها تظل حقيقة للتأمل. يروى أنه ذات يوم من التسعينات، دعت جامعة مرموقة في الولايات المتحدة، رجلاً ناجحاً لإلقاء خطاب التتويج في حفل تخرج طلابها السنوي. لم يكن الضيف غير لاري إليسون، الرئيس التنفيذي لشركة «أوراكل»، الامبراطورية الأميركية الضخمة في مجال المعلوماتية أيضاً. وقف إليسون على المنبر من دون ورقة ولا خطاب مكتوب. نظر إلى المتخرجين ملياً قبل أن يقول لهم: هل تدركون لماذا ثروة بيل غايتس أكبر من ثروتي؟ ووسط استغراب المحتفى بهم وذويهم وأساتذتهم وبحر القبعات السوداء الكثيفة، تابع إليسون قائلاً: لأن غايتس هجر الجامعة قبلي. تركها قبلي بسنة. أنا هجرتها بعده. فأضعت وقتاً أكثر، ولم أتمكن من اللحاق به بعد! كانت صدمة للجامعة المرموقة، ظلت تعتذر عنها طويلاً خطياً ورسمياً، لكن الواقعة ظلت جامدة: ما سر أن يكون إليسون، كما غايتس عبقري مايكروسوفت، تماماً كما ستيف جوبز ساحر «آبل»، قد تركوا الجامعة ولم ينهوا اختصاصاتهم ولم يحملوا إجازة جامعية؟ علماً أن سمة مشتركة أخرى تبدو مفارقة بين إليسون وجوبز من جهة أخرى. كلاهما طفل بالتبني. ما يفتح الباب أمام سؤال آخر حول كيفية بناء عقل الإنسان وشخصية الطفل ــ الرجل…

لكن فلنبق الآن في الجامعة والإبداع. قبل أعوام قليلة، كان أرمني من أصل إيراني قد تبوأ مركز رئاسة جامعة براون الأميركية الذائعة الصيت. اسمه فارتان غريغوريان. وللمناسبة فهو يعرف لبنان ويتقن العربية كما إنكليزيته التي نال بها شهادتي دكتوراه في التاريخ والعلوم الإنسانية من ستانفورد. في أحد لقاءات الطلاب وذويهم في براون، وقف غريغوريان متحدثاً عن أهمية التعليم الجامعي وصعوبته هذه الأيام. قبل أن يفتح الباب لأسئلة أهالي الطلاب واستيضاحاتهم. وقفت إحدى الأمهات، لتقول لرئيس الجامعة إن ابنتها تشتكي دوماً من أن أساتذتها في المواد العلمية، لا يتقنون «اللغة الأميركية» على نحو جيد. مما يصعب على طلابهم فهم دروسهم. فأجاب الرئيس الأرمني بسرعة: هذا صحيح. وهي مسؤوليتك سيدتي. فبفضلك وبفضل تربية هذا الجيل الأميركي، لم أعد أجد أساتذة أكفاء في الرياضيات والفيزياء والكيمياء، إلا من الهند!

هي مجرد وقائع متقطعة، لطرح السؤال عن مستقبل الجامعة الكلاسيكية، في عالم تواصل اليوم؟ هل تستمر؟ أم تتحول إلى مفهوم آخر مختلف كلياً، تحت وطأة إنجازات المعلوماتية، وتحت طائلة أن تموت الجامعة التقليدية؟ سؤال مطروح على أرقى الجامعات. فكيف بدكاكين التراخيص عندنا! غير أن الربط بين «الخطر» الذي يهدد الجامعة، وتكنولوجيا المعلومات وثورتها، يشي في اللاوعي، كأن المسألة تحقيق ثأر من عباقرة الكومبيوتر ضد كلياتهم التي هجروها. كأن بيل غايتس وستيف جوبز ولاري إليسون، انتقموا باختراعاتهم ـــ من حيث يدرون أو لا ــ من جامعاتهم التي هربوا من سجون مقاعدها وصفوفها إلى فضاء الإبداع والإنجاز. فصارت اختراعاتهم هي ذاتها الأدوات التعليمية الجديدة، التي قد تغير الجامعة، أو تقتلها!

تبقى فكرة أخيرة هي وليدة مصادفة أخرى غريبة أيضاً. في اليوم نفسه لوقوع الذكرى الأربعين لتأسيس شركة «آبل» أمس، سجل في الولايات المتحدة حدث آخر. منفصل متصل. في اليوم نفسه أعلن مكتب التحقيقات الفدرالي الأميركي، إف بي آي، أنه لم يعد بحاجة إلى تعاون شركة «آبل» من أجل الدخول أمنياً إلى هواتف آيفون الجديدة. وذلك بعد نزاع قانوني قضائي إعلامي وسياسي بين الطرفين. فأحفاد إدغار جاي هوفر، مثلهم مثل كل عملاء الأجهزة البوليسية في العالم، مهووسون بالتنصت على البشر. ودائماً بذريعة الأمن والسلم الأهلي وحماية الوطن والمواطن. وكان الجيل الجديد من هواتف «آبل» عصياً حتى اللحظة على اختراقات إف بي آي. طلب الفدراليون رسمياً من الشركة التعاون. فرفضت تحت غطاء الحق الدستوري في حماية الحياة الشخصية لكل مواطن وإنسان. استمر النزال والسجال أشهراً. قبل أن يتبين أمس أن المتنصتين لجأوا إلى شركة اسرائيلية، اسمها «سيل برايت»، تمكنت من خرق الهاتف وتزويد الجهاز الأمني بما يريد من تنصت على كل مستخدميه، من دون إذن المصنع ولا جميله!

مجرد واقعة أخرى مثيرة لتساؤلات لا تنتهي. منها من منا لا يخضع لتنصت اسرائيل؟ وأي مأساة بائسة زج المشرق العربي نفسه فيها. ففي غضون عقود قليلة، انتقلنا من مشرق يلد فيه إنسان سوري من حمص عبقري «آبل»، إلى جحيم تؤدي فيها اسرائيل خدمة لواشنطن، للتجسس على كل العالم، بذريعة مواجهة الإرهابيين الذين دمروا حمص ووطنها!