كلام رئيس الجمهورية في ختام جلسة مجلس الوزراء أمس بشأن التعيينات، يعني أمراً واحداً؛ القفز فوق الآلية وإعطاء الإذن للوزراء بممارسة صلاحياتهم الدستورية، أي تسمية من يُريدون في وظائف الفئة الأولى وتكريس منطق المُحاصصة
غداة البلبلة التي أطلّت من مجلِس الوزراء أخيراً، بعدَ طرح تعيين بديل من مُحافِظ بيروت زياد شبيب، وما رافقَها من معلومات عن رغبة رئيس الحكومة استبداله بمستشارتِه للشؤون الصحية بترا خوري، أثارت قضيّة التعيينات ملامِح أزمة سياسية تجسّدت باستنفار وجوه سياسية ودينية، لحماية «موقِع أورثوذكسي».
«بالون الاختبار» الذي رماه حسان دياب، بالترويج لخوري، أعاد إلى الضوء المعايير التي ستحكم التعيينات والآلية التي ستتمّ على أساسِها وحصص الأطراف فيها. لكن يبدو، بحسب المعلومات، أن التهرب من التطبيق العملي لأي آلية موحدة للتعيينات لا يزال قائماً، بحجة أن للوزير صلاحيات دستورية، وله أن يقترح في الوزارة التي يتولاها أن يملأ الشغور في وظائف الفئة الأولى. هذا «الحق» الدستوري لطالما استخدمه البعض لعدم الالتزام بآلية محددة. وما دام لم يحصل أي تعديل دستوري، فلن يتبدّل شيء.
ليسَت آلية التعيينات في الدولة موضوعاً إدارياً أو تقنياً بحتاً، بل تكاد تكون المعركة الأشرَس التي تخوضها قوى السلطة. فأي آلية تحترِم المعايير، ستشّكل عائِقاً يحول دون إمساك هذه القوى بنفوذها داخل المؤسسات. وإلا ما الذي يُفسّر عدم الاتفاق على آلية موحدة منذُ عشر سنوات؟ مع أن هذه القوى نفسها، خصوماً وحلفاء، استطاعَت الاتفاق على إنجاز انتخابات نيابية وبلدية وقانون انتخابات وتعيينات (قضائية وأمنية ودبلوماسية)… لكنها بقيت «عاجزة» عن إقرار آلية للتعيينات. ما يُفسّر ذلِك هو حقيقة أن أفضل سلاح تُسيطِر به القوى السياسة على النظام هو المواقِع الإدارية في الدولة. وهذه المواقِع استطاعَت مِن خِلالها القوى السياسية بناء «دويلاتِها العميقة» داخِل المؤسسات، وفقَ التقسيم الطائفي والمذهبي، بشكل يُتيح لها إحكام قبضتها، حتى لو صارَت خارِج الحكومة.
الأسبوع الماضي، كانَت المعلومات تؤشّر إلى شبه اتفاق على اعتماد الآلية التي وضعها الوزير السابِق محمد فنيش عام 2010، وجرى التوافق عليها في الحكومة آنذاك. لكن مع إدخال تعديلات وفقاً للمهل التي ينصّ عليها اقتراح القانون الرامي إلى تعديل الآلية في الفئة الأولى في الإدارات العامة، وفقاً للتعديلات التي أدخلتها عليه لجنة الإدارة والعدل برئاسة النائب جورج عدوان. لكن رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، وبشكل مفاجئ، اختتم جلسة مجلس الوزراء أمس بالقفز فوق هذه الآلية، إذ أعطى الحق للوزراء بطرح اسم أو أكثر على مجلس الوزراء في أي تعيينات مقبلة، من خارج الآلية. فعون قال إن «للوزير الحق وفق الدستور أن يختار من هو مناسب، وعليه، هو من يقرّر، كما له الحق في تطبيق الآلية التي تناقشها اللجنة الوزارية (برئاسة الرئيس حسان دياب) وتعمل على تعديلات عليها». لكن هل سيتبع الوزراء الآلية ما دامَت لهم حرية الاختيار؟ تقول مصادر وزارية إن «هناك تفاهماً بين الوزراء على هذا الأمر، وهناك اقتناع بضرورة العودة إلى الآلية، ولذا جرى تأليف لجنة لمناقشتها». لكن هذا التفاهم يبقى «اتفاقاً شفهياً»، غير ملزم، ما يعني أن أي وزير يمكنه تجاوز الآلية ساعة يريد.
الوزير السابق محمد فنيش يرى أن «تطبيق الآلية المتفق عليها في الحكومة ليس مستحيلاً، وسبق أن اختبرنا ذلك، وقد جرت تعيينات عديدة على أساس الآلية التي وضعناها». فنيش يعتبِر أن الإشكالية هي في رفض بعض الوزراء اتباع الآلية، لأن لهم حقاً دستورياً في اختيار من يريدون، وخاصة أن الآلية تبقى غير ملزمة، إلا بعدَ إقرارها في مجلس النواب.
لن يكون إقرار الاقتراح كما عدّلته «الإدارة والعدل» سهلاً
إذاً، الامتحان الحقيقي لنية القوى السياسية اعتماد معايير الكفاءة والنزاهة، سيكون في الهيئة العامة، إلى حيث سيحول اقتراح القانون. يقيناً، لن يُكتَب لهذا الاقتراح أن يسلُك سالِماً طريق الهيئة العامة في مجلِس النواب. في أحسن الأحوال، ستصوّت الغالبية في البرلمان على اقتراح القانون، ثم يتوفّر عشرة نواب للطعن فيه أمام المجلِس الدستوري. وإن سقَط، فلن تعود الآلية مُلزِمة، وبالتالي أي حكومة جديدة لن تكون محكومة بتلكَ التي تمّ التوافق عليها سابقاً، أي إن الآلية الوحيدة، في ظل غياب هياكِل رقابية فاعِلة، هي الرائجة تقليدياً: آلية الطوائِف. والأخيرة لا تنصّ على اختيار الأفضل في التعيينات الإدارية، بل تسمية «جنود» مهمّتهم الاختراق والسيطرة بِما يُتيح لهم من خِلال مواقعهم وصلاحيتاهم الحصول على مكاسِب ومنافِع بالنهب والطرق غير المشروعة لحساب القوى و«الكيانات» التي أتت بهم.
«آلية فنيش» وتعديلات الإدارة والعدل
عام 2010 أصدر مجلس الوزراء قراراً حمل الرقم 12/ 2010 تضمّن آلية التعيينات للفئة الأولى، أعدّها وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية، حينذاك، محمد فنيش. غير أن الحكومات المتعاقبة تنكّرت لها، وعادت إلى عادتها القديمة بالتعيين وفقاً للمحسوبية. وقد نصّت هذه الآلية على ضرورة وضع ضوابط تسبق ممارسة الوزير لصلاحياته، إذ تتألف لجنة وزارية – رقابية للنظر في «السير الذاتية» للمرشحين لتولي المناصب الشاغرة، بعد الاطلاع على ملفاتهم في الهيئات الرقابية، في حال كانوا من داخل الملاك. وبعد درس الملفات وإجراء المقابلات الشفهية، يقترح الوزير أفضل 3 مرشحين ويحيلهم على مجلس الوزراء مع ملخص لسيرهم الذاتية. وفي تعيينات لأعضاء مجالس الإدارة مثلاً، إذا كان الأعضاء متفرغين ويعتبرون بمثابة موظفي الفئة الأولى، فهم بحاجة الى موافقة ثلثي أعضاء مجلس الوزراء، ويخضعون للآلية المتبعة لموظفي الفئة الاولى. ووفقاً لاقتراح قانون لجنة الإدارة والعدل، فإن الأفضلية هي لموظفي الفئة الثانية في الملاك الإداري العام لملء شواغر الفئة الأولى في الإدارات العامة وعلى فتح باب الترشيح لجميع المؤهلين من داخل الملاك وخارجه في المراكز الشاغرة بالنسبة إلى المؤسسات العامة في وظائفها القيادية وذلك بعد تحديد المواصفات وشروط التعيين بصورة موضوعية وشفافة، وبعد إجراء مقابلات شفهية توضع بنتيجتها أسماء ثلاثة مرشحين مقبولين، يعود لمجلس الوزراء اختيار واحد منهم.