بتأجيل تعيين حاكم المصرف المركزي، ظهر الخلاف الأول بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة إلى العلن، في مؤشر واضح على هشاشة النظام التوافقي التشاركي اللبناني. لم يطل شهر العسل الرئاسي، ولم يكن سبب الاحتكاك شخصيتين مثل جوزاف عون أو نواف سلام، بل تعود جذوره إلى طبيعة النظام اللبناني نفسه، الذي يعيد إنتاج أزماته مع كل استحقاق دستوري.
في هذه القضية، يتمسّك نواف سلام بحقّه في المشاركة في تسمية حاكم مصرف لبنان، باعتبار أن المنصب يدخل ضمن حصة رئيس الحكومة وفق التوازنات الطائفية التي أفرزها اتفاق الطائف. في المقابل، يعتبر رئيس الجمهورية أن الموقع هو من حصة الرئاسة، استناداً إلى عرف غير مكتوب لكنه ساد لعقود. هذا النزاع ليس جديداً، بل يتكرّر مع كل تعيين في المراكز الحساسة، حيث تتداخل الصلاحيات وتتضارب الحسابات الطائفية والسياسية، ما يجعل من كل استحقاق ساحة مواجهة جديدة.
منذ إقراره، كان اتفاق الطائف أشبه بتسوية موقتة أكثر منه حلّاً دائماً للأزمة اللبنانية. فهو لم يضع حدوداً واضحة للصلاحيات، بل أرسى توزيعاً هشاً للسلطة بين الطوائف، ما جعل النظام السياسي في حالة نزاع مستمرّ بين الرئاسات. ومع كل محطة دستورية، تتفجر الخلافات حول من يملك الكلمة الفصل في القرارات الكبرى، كما هو الحال اليوم في تعيين حاكم المصرف المركزي.
الطائف، الذي كان يُفترض أن يكون محطة استقرار، تحوّل إلى قيد يكبّل النظام ويؤدي إلى أزمات متكررة. فهو أبقى على نظام قائم على المحاصصة الطائفية، حيث لا يمكن لأي قرار أن يُتخذ دون توافق، ما يعني أن أي اختلاف في المصالح يؤدي إلى تعطيل المؤسسات وتأخير القرارات الحيوية، كما هو حاصل اليوم.
لا يوجد في لبنان خط فاصل واضح بين الصلاحيات الرئاسية، ولا حدود دقيقة لأحجام الطوائف في السلطة. وهذا ما يجعل النظام السياسي أشبه بحقل ألغام دائم، حيث تنفجر الأزمات عند كل مفترق دستوري أو استحقاق سياسي. المشكلة ليست في الأشخاص ولا في أسماء المرشحين للمناصب، بل في بنية النظام نفسه، الذي لا يسمح بقيام دولة حديثة بآليات حوكمة واضحة ومستقرة.
في ظلّ هذه المعادلة، سيبقى كل تعيين، وكل قرار، وكل استحقاق، خاضعاً للتجاذبات، وسيبقى النظام في حالة شلل كلما اصطدمت المصالح السياسية والطائفية. إن الأزمة الراهنة ليست أزمة حاكمية فحسب، بل هي أزمة نظام يحتاج إلى إعادة صياغة، بعيداً من الحسابات الفئوية التي جعلت من لبنان دولة بلا استقرار دائم.
إنها لعنة وطن قيد الدرس.