تُعتبر «المحسوبيّة»، أي استخدام السلطة لأهداف غير مشروعة أو لتحقيق مكاسب شخصيّة ضيّقة، من أكثر الدلالات التي تؤشّر إلى الفساد في الدولة.
و«المحسوبية» تعني تفضيل الأقارب أو المحاسيب أو الأزلام، بسبب قرابتهم وليس كفاءتهم. فيكون عندها المسؤول مُتّهماً «بالمُحاباة».
وقد عَرّفها «ريتشارد جراهام» بأنّها مجموعة من الأفعال القائمة على مبدأ «خُذ هُناك، أعطِ هُنا»، حيث تتميّز غالباً «بأنظمة المبادلة» بين الأحزاب والمحاسيب.
وبالعودة إلى تاريخ شيوع «المحسوبية»، فإنّها قد عُرِفَت بالأساس في «روما القديمة» حيث كان الحكّام حينها يُعيّنون الأزلام والمحاسيب، عوض أصحاب الكفاءة والجدارة. حتى أنّ بعض المؤرّخين قاموا، ابتداءً من نهاية العصور الوسطى، بوصفها «بالنظام الإقطاعي غير الشرعي».
علماً أنّ كلمة المحسوبيّة (nepotism) الإنكليزية، أصلها لاتيني، ومُشتقّة من كلمة (nepos)، والتي تعني (nephew) أي «إبن الأخ أو الأخت».
لم يَسلَم الوسط السياسي من هذه الآفة، حتى الولايات المتّحدة الأميركية، فمثلاً حين تمّ انتخاب السيناتور الأميركي «فرانك مركوفسكي» حاكماً لولاية «الاسكا»، عَيّن ابنته «ليزا» ممثّلة له عن الولاية، لإدارة المنصب للعامَين المتبقّيَين من فترة ولايته. كذلك اتُّهم «جون كينيدي» أيضاً «بالمحاباة» من قبل عدد من خصومه، حينما عَيّن شقيقه «روبرت كينيدي» مُدَّعياً عامّاً…
وانتشرت هذه الآفة في كل زمان ومكان، من ماليزيا إلى الهند والمحيط العربي والخليجي، وصولاً إلى لبنان.
وما دَفَعَنا إلى هذه المقدّمة، ما جرى بالأمس القريب من تعيينات إدارية في مجلس الوزراء، حيث شملت المجلس الأعلى للخصخصة، ومجلس إدارة «إيدال».
وليس خافياً على أحد، ما تردّد حول تعيين قريبَين لنائبين من كتلة العهد، في المجلس الأعلى للخصخصة وفي مجلس إدارة «إيدال». حيث لم ينفِ أي منهما هذه الأنباء، لا من قريب أو بعيد على الإطلاق.
ألا يحقّ لأيّ مواطن أن يسأل كيف حصلَ هذا التعيين؟.
ألا يحقّ لأيّ مواطن أن يسأل ما هو المعيار الذي اعتُمِد لذلك؟.
وهل أنّ التعيين جاء من باب «المحسوبية» أم «الكفاءة»؟.
كل هذه الأسئلة وسواها، من واجب الحكومة أن تتوقّف عندها. مُكرّرين أن لا خَلاص للبنان إلّا بالقضاء على الفساد، والتعيينات الزبائنية، وبإدارة حكومية شفّافة تعتمد على الكفاءة والمعيار الواحد، عِوض «المحسوبيّة» وتعيين الأقارب والأزلام. ولا سبيل لذلك إلّا باعتماد آلية للتعيين، تسمح لكل مواطن بالانخراط في إدارة الدولة، وعدم اقتصارها على «العائلة الحاكمة» أو «الحزب الحاكم» على الإطلاق.
ويكفي أن نُطالع مؤشّر الدول الأكثر فساداً في العالم، حتى نُدرك موقع لبنان عالميّاً، وحتى عربيّاً، حيث يتصدّر الترتيب بين الدول الأكثر فساداً في محيطه.
وفي الختام، لا بدّ لنا من أن نُشدِّد على أنّ الفساد والمحسوبية في التعيينات يقوّضان الديموقراطية، ويجعلان الدولة مزرعة.
فلنذهب جميعاً إلى دعم اقتراح القانون الذي تقدّم به «تكتّل الجمهورية القوية»، لوَضع آلية واضحة للتعيينات. والذي كنّا نأمل أن يمرّر في الجلسة التشريعية التي عُقدت منذ يومين، علماً أنّ الاقتراح المذكور قد أُسقِطت عنه صفة المعجّل المكرّر، وأُحيل إلى لجنة الإدارة والعدل النيابية للدراسة وإبداء الرأي. عسى أن ننجح وبسواعد الكافة، في إنقاذ لبنان قبل فوات الأوان. وأن نتمكّن من لملمة ما تبقّى لنا من أشلاء وطن، قبل أن يضيع الحلم، وندفع الثمن.
ومع الإشارة الى أنه، ومع عدم وضع آلية واضحة للتعيينات ستفقد الدولة مصداقيّتها، كما فقدت بالأمس الكثير من الكتل النيابية مصداقيّتها مع التصويت السلبي على اقتراح القانون المومَأ إليه أعلاه.
وبالتالي، ما نشهده وحتى تاريخه، ليس سوى تَشبّث بسياسة الفساد والمحسوبية والأزلام، التي لن تُقيم وطناً من محنته، عوض أن تتضافر الجهود لإنقاذ الوضع وإصلاحه، حيث جاءت مواقف الكتل النيابية من اقتراح القانون مُخزية ومُخذلة، ولا تدلّ على حِسّ بالمسؤولية لا من قريب أو بعيد على الإطلاق.
علماً أنّ استمرار هذا النهج من الفساد والهدر والتعيينات الملغومة والمفخّخة، سيؤدّي حُكماً إلى ضياع الوطن وانهياره، حيث لا فائدة بعدها من البكاء عليه أو الندب فوق رأسه.
حيث يُذكّرني ذلك بقول للسيّدة «عائشة» والدة «أبي عبدالله الصغير الزغابي»، آخر ملوك «غرناطة». حيث يُروى أنّ «أبا عبدالله» تنهّد بقوّة في «تل الريحان» (الذي عُرف بعدها بجبل التنهيدة) في وسط «غرناطة».
وطافت دموعه مودّعاً للمرة الأخيرة «قصرالحمراء» الذي سلّمه بكامل محتوياته إلى ملكة «قشتالة» وزوجها «فرديناند» ملك «ليون» عام 1492، بعد حصار طويل. حيث نَهَرته والدته «عائشة» قائلة له: «لا تبكِ كالنساء ملكاً لم تحافظ عليه كالرجال» آملين أن نتمكّن من الدفاع والمحافظة على ما تبقّى لنا من الوطن كالرجال، قبل أن نترنّح بالبكاء عليه يوماً (لا سمح الله) كالنساء.