12 مرة .. 14 شباط
حين وقف الرئيس الشهيد رفيق الحريري معايناً قلب بيروت بأبنيته الجانحة إلى أكوام وفتات، وإلى تركات المقاتلين من أدوات موت وفتك بالحجر والبشر معاً، أدرك أن ليس بالاعمار وحده تقوم المدن وتتزيّن وتزدحم بالحيوات، ذلك أن المعضلة اللبنانية قائمة على أكثر من كف وعفريت، وإن تهاوى جناح تتهاوى بقية الأجنحة، وعليه جاء القرار بضرورة أن يكون هناك نهج ورؤى لا يمشي وحده على أساسها، وإنما البلد برمته، فكان اتفاق الطائف وخطوات متسارعة نجحت في غضون سنوات قليلة بإعادة لبنان إلى السكة. أما وجهة القطار، فـ «نقل مشترك» يأخذ إلى محطات داخلية بالأهمية نفسها التي يأخذ فيها إلى الخارج البعيد حيث لم تعد الأخبار اللبنانية المصدّرة حكرا على تعداد الخسائر البشرية والمادية، وإنما إلى زهوة أغنية:«راجع يتعمر لبنان،راجع متحلّي وأخضر أكتر ما كان»، وإلى همة سواعد تشابكت على ثوابت نادى بها رفيق الحريري، وأولها ضرورة تعليم الأجيال الشابة وتثقيفها من أجل الابتعاد عن عصبيات الهوية وهمجية الرشاش والمدفع، فكان أول من أخذ على عاتقه المهمة التربوية التي تولت التعليم دونما تفرقة أو تمييز مبدلة في مصائر الشباب وفي حياة أدمغة تميزت بمهاراتها وسيرتها الحسنة من حول العالم. ومن تلك التجربة يمكن استقاء الدرس اللبناني الأول في النهج الحريري: «أن تحب البلد، يعني أن تحصن الشباب من نزوات الداخل وفتنه بدلا من التعبئة والتجييش واجترار لغة تأخذ مجددا الى حرب أهلية أدمت البلد وطوائفه».
وفي الدرس اللبناني الثاني في النهج الحريري، ميثاقية الطائف كمرجع نهائي لوفاق اللبناني وسلمه الأهلي، و في هذا الجانب التزم الرئيس الشهيد مسار البوصلة في إعادة التوجيه وفق مبدأ: «المناصفة بين المسيحيين والمسلمين»، وكان أكثر ما يغضبه أن يسمع كلاماً عن ثنائية سنّية – شيعية أو سنية – مارونية، حاسماً مثل تلك الأحاديث بالقول: «الكلام الطائفي غير مقبول حيث على أرض المملكة وحجيج المسلمين تقرر بأن لبنان هو لجميع اللبنانيين وطن نهائي لجميع أبنائه، وهو بالتساوي بين جميع أبنائه»، وكم ظل ينبه: «لكن المناصفة لا تعني بأن يكون المسلمون في ضفة والمسيحيون في الضفة المقابلة، وإنما تعني أن السلطة فيها مشاركة على قدم المساواة على جميع الأصعدة». ومن أجل تلك المشاركة، أبدى حرصاً على الدخول في التسويات والحوارات والمناقشات والروحات والجيئات من أجل أن تبقى الأبواب مشرّعة وغير موصدة في وجه أحد، وذلك في بلد فيه 18 طائفة وفيه أضعاف الرقم من وجهات النظر والتدخلات الخارجية والداخلية، ومع ذلك فإنه لم يقطع الخيط الأبيض يوماً، ولم ينظر الى الكوب الا من نصفه الملآن، مغلّباً على الدوام المصلحة العامة على المصالح الشخصية، وفي كل مرة كان ينجح في تجنيب البلد أزمة وفي تفويت الفرص على المصطادين في المياه العكره، ذلك أنه انتهج ميثاقية الاعتدال التي هي ميثاقية الطائف وهي نفسها ميثاقية رفيق الحريري: «المهم البلد».
وفي الدرس اللبناني الثالث في النهج الحريري، قناعة ترسّخت بأن لبنان لا يمكن أن يعيش بمعزل عن محيطه العربي، وبمنأى عن مشكلاته، فكانت محاولاته الحثيثة في التقارب من الذين كان يوافقهم تطلعاتهم، وأولئك الذين يتعارض معهم جذرياً. وفي الحالتين كان يكسب أصدقاء ورهانات ومناصرين ووطناً منيعاً، مرات بفطنته وخبرته وكثيراً بحلاوة اللسان، هو الذي حرص على الوصل بديبلوماسية القول: «هناك التباس، إما أن ما سمعته خطأ، أو أنه قيل خطأ، وأرجح أنه قيل خطأ». فكان أن بنى الرئيس الشهيد جمهورية من الثقة به، وبدولته، وبوجه لبنان في الخارج، فتقلّص أعداؤه إلى فئة واحدة، تلك المعترضة على مقولة: «بلد حر سيد مستقل»، وهي الفئة الوحيدة التي لم يهادنها، فنادت باغتياله، وحين لم تفلح معنوياً، ذهبت الى خيار الطن من المواد الشديدة الانفجار.
وفي الدروس المتلاحقة والتي لا تحصى..ودائماً في النهج الحريري، أنه بالسياسة أصلح ما أفسدته الطوائف، سعياً الى نظام لبناني تكون مهمته إدارة الشأن العام بالطرق الديمقراطية، من خلال التعاون والحوار والتوافق والشراكة..وكلها عناوين جوهرية في نصوص دستور الاستقلال وفي الطائف وفي الحقبة الراهنة حيث البلد يتعافى تدريجياً من سقطات الآخرين على أرضه، ومن سقطات أبنائه. وكان يقول: «أهم شروط شرعية النظام السياسي نجاحه في الحصول على تأييد ودعم غالبية المواطنين وسعيه الدائم من أجل الانجاز. فإن لم يتحقق النجاح، فليس ذلك ذنب الناس، بل هو ذنب الطبقة السياسية، التي ما أحسنت إدارة الشأن العام». ولأن النظام السياسي بحسب قناعته يكون ناجحاً حين يأخذ الى الرفاه والتقدم، فإنه حرص على تحقيق النمو في الحركة الاقتصادية، حتى ضاقت الفنادق بالسياح، وارتفعت نسبة الاستثمارات العربية والأجنبية، وأعاد المطار الذي حمل اسمه الى الخارطة العالمية، وأعاد بناء المدينة الرياضية، وتوسيع المرافئ، وشق الأوتوسترادات والجسور والأنفاق، اهتم ببناء المدارس والمستشفيات والمجمعات التجارية..
وكما قدّم لبنان لأصدقائه من حول العالم بكلماته المفعمة بالحب والأمل: «لبنان متمسك بثوابته الوطنية، محاور، له صداقات عديدة، محب للسلام، نابذ للعنف، محارب للارهاب، دائم المطالبة بحقوقه وحقوق الأمة العربية، متسلح بالقانون الدولي والشرعية الدولية…»، جدير بجيل أحبه على الرغم من أنه كبر ونضج في غيابه، أن يبادل الشهيد بالمحبة نفسها حين يقدم للعالم أنموذجاً لبلد جميل بناسه وبطبيعته وبإيمانه وبعطاءاته اللامحدودة، هذا البلد الذي قد لا يخلو من الخلافات السياسية، باعتبارها دليل معافاة ويقظة، وكله أمل في أن لا يعيد الكرّة الطائفية..ذلك نهج رفيق الحريري، تلك رؤيته، قناعته، ومن يزايد فليقارع أولاً على محبة الوطن.