IMLebanon

13 نيسان 75 يوم إغتيال بيروت المدينة..

يوم الاثنين القادم هو الثالث عشر من نيسان.. الذي كتبنا عنه كثيراً.. وتحدّثنا عنه ولا نزال.. واتهمنا بعضنا البعض ثم اتهمنا الآخرين على ارضنا.. وحمّلنا النظام مسؤولية انعدام النظام، ثم المشاركة والحرمان والخوف.. ثم اعتبرنا الطائفية والمذهبية سبباً في ذلك الانهيار.. ثم المؤمرات الإقليمية والدولية.. وكنّا دائماً كلّنا ملائكة وكلّنا شياطين.. ورغم مرور أربعين عاماً على ذلك اليوم اللعين، لا نزال لا نعرف حقيقة ما حدث، وكيف أنّه في غمضة عين واحدة نزلنا جميعاً الى الشوارع والمتاريس مدجّجين بالبنادق والمدافع.. وأطلقنا النار في كلّ اتجاه.. وقتلنا أناساً لا نعرفهم.. ودمّرنا بيوتاً كنّا نسكنها.. كنّا سعداء ومقبلين على الحدث وكأنّنا كنّا ننتظره منذ مئات السنين.

١٣نيسان جريمةٌ لم يرتكبها طرفٌ أو فريقٌ أو حزبٌ بعينه.. إنّها جريمة جماعية ارتكبناها معاً وفي وقتٍ واحدٍ.. وكان كلّ واحد منّا «بروتس».. نعم نعرف بعد مرور أربعين عاماً أنّ اللبنانيين هم من ارتكب الجريمة ونحن الجناة.. ولكن الآن، وبعد أن تخلّصنا من العقاب على جريمتنا، لا بدّ أن نعترف من كان الضحية، ولماذا ارتكبنا جريمتنا.. وطبعاً القتلى كانوا بمئات الآلاف، وسميناهم شهداء.. لكنّ الحقيقة التي لا تزال طي الكتمان هي أنّنا في ١٣ نيسان أردنا اغتيال بيروت المدينة.

بيروت التي أخذت أولادنا من الحقد الى التسامح.. ومن الطائفية الى الوطنية.. ومن القبلية الى المدنية.. بيروت التي هاجرنا إلى تنوّعها وتفاعلها وتفتّحها، بعيداً عن أبو جهل وجاهليته، وبعيداً عن الانعزال والتقوقع.. بيروت التي عرَّفتنا على الانسان فينا.. فصرنا نشبه غيرنا وغيرنا يشبهنا، وكبرنا فيها وكبرت فينا.. بيروت التي فتحت لنا أبواب مدارسِها وجامعاتِها ومعاملِها وأحيائِها.. وفرشنا أسرّتنا قرب أسرّة أبنائها وساكنيها.. وأخذنا منها الأمان الذي حُرِمْنا منه في أريافنا وأعالينا.

بيروت التي علّمتنا حبّ الجمال في داخلنا وفي خارجنا وعلى جدراننا وشرفاتنا وطرقاتنا ومقاهينا.. بيروت التي قهرت كل مركّبات النقص في داخلنا.. فصرنا كباراً في العلم والفنون والسياسة والحرية والتفكير والتنوع.. جعلتنا أفراداً حقيقيّين.. ننظر الى الخطأ فنحدّده، والى الظالم ونأنّبه، والى العاقل فنكرّمه.. وفجّرت كلّ طاقات الخلق والإبداع في إنساننا، فتركنا خلفنا ماضينا المظلم وتطلّعنا الى مستقبلنا الواعد.

هدَّدت بيروت بنجاحها ووطنيّتها وتسامحها كلّ ذلك التخلّف والتقوقع القبليّ والطائفيّ والمذهبيّ.. فاستنفرت غرائز الحقد والتخلف التي خسرت هيمنتها على الناس واستتباعها لهم كالنعاج.. فقتل الجاهل أخيه العاقل ودمّر الطفّار سكينة المدنيين الآمنيين وخرّب الفوضويون أسباب الانتظام وسقطت المدينة الجميلة على أيدي الجاهلية البشعة.. واغتُصِبنا فرداً فرداً واحترقت مدينتنا شارعاً شارعاً.. لم يتركوا لنا إلاّ الذلّ والخوف والضياع والغضب والحمق والتفاهة والقتل والدمار.

في ١٣ نيسان ٢٠١٥، أعتذر من بيروت وأهلها وسكّانها لأنني تأخّرت بشهادتي عن اللذين ارتكبوا جريمة اغتيالها وكل الجرائم الأخرى التي استُهدِفت بيروت فيها.. وآخرها جريمة ١٤ شباط.. وما قبلها وما بعدها.. كلّ جريمة استهدفت رمزاً عاقلاً أو حكيماً أو مفكّراً أو إعلاميّاً  أو عالماً أو مبدعاً أو رمزاً للاعتدال الديني والوطني.. كل الأعلام والقادة اللذين أحبّوا بيروت واستوطنوا بيروت اغتيلوا على أيدي ذوي الحقد والجهل عن سابق تصوّر وتصميم.. لأنّ المدينة تخيفهم ولأنهم حمقى وجبناء.. يخافون التقدّم والتطوّر والحداثة التي تخلّصهم من جهلهم وتخلّفهم.. وها هم الآن يحرقون كلّ المدن التي أرادت بعد بيروت أن تكون بيروت.. من دمشق الى بغداد الى الى..

لماذا هذه الشهادة المتأخّرة؟ لأنّني أرى مجدّداً ذلك الطيف المخيف الذي شاهدتُه قبل أيّام من ١٣ نيسان 1975.. طيف الجهل والحقد والتطرّف والانكفاء والغوغاء والادّعاء.. أراه بوضوح الآن في كلّ زاوية من لبنان، يحاول أن يغتال مرّة أخرى بيروت اللقاء والحوار والأمان.. التي تحضن كلّ اللبنانيين في أحضانها رغم ظلمهم لها.. ينعمون بودّها وتسامحها وتجعل من الضعفاء منهم أقوياء في وطنيّتهم ومدنيّتهم.. مما يهدّد أمراء الجهل والقتل والتخلّف في لبنان.

تحضرني الآن قصيدة نزار قباني «يا ستّ الدنيا يا بيروت»: نعترف أمام الله الواحد.. أنّنا كنا منك نغار.. وكان جمالك يؤذينا.. نعترف الآن بأنْنا لم ننصفك ولم نرحمك.. بأنّنا لم نفهمك ولم نعذرك.. وأهديناك مكان الوردة سكيناً.. يا ستّ الدنيا يا بيروت!