«سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
ثمانين حولا لا أب لك يسأم
وأعلم ما في اليوم والأمس قبله
ولكنني عن علم ما في غد عمِ»
(زهير بن ابي سلمى)
عن الذاكرة الجماعية
تعبير الذاكرة الجماعية أدرج لأول مرة سنة 1940 على لسان «هلبواشز» في الولايات المتحدة الأميركية، وهو يعني جملة من الأفكار والرؤى والأحاسيس المحفوظة من الماضي، يتشارك فيها ويجمع عليها عادة معظمُ أفرادِ مجتمعٍ ما.
وتُعتبر هذه الذاكرة جزءاً من عملية بناء المعنى والعبر من الماضي. وتدخل عادة في بناء هذه الذاكرة عوامل عدة، منها التجربة والدين والطبقة الاجتماعية… بالإضافة الى الجغرافيا والثقافة، ليتحول مجمل هذه «الأحاسيس» الى نوع من الإيمان أو القيم أو التقاليد التي تصبح من أهم روابط الفرد مع المجتمع.
وتكون الذاكرة الجماعية عادة جزءاً لا يتجزأ من مسار الحياة اليومية بحيث تصبح أقوى من قدرة الأفراد على تجاوزها، ويدخل الكثير منها في عالم الأساطير التأسيسية للمجموعة. وتتراكم هذه الذاكرة بشكل بطيء وتدريجي، ولكنها صعبة التغيير الى درجة الاستحالة في بعض الأحيان، حتى بالانتقال من جيل الى جيل.
وتأخذ الأحداث الكارثية على المستوى الجماعي كالحرب والزلازل والفيضانات موقعاً مركزياً في الذاكرة الجماعية، ولكن تفاصيلها تزول مع الوقت من واجهة الفكر وتصبح الأساس لمعظم التحليلات والمخاوف والآمال للفرد، وهكذا تحتفظ هذه الذاكرة بالعبر والمعاني في وقت تندثر فيه التفاصيل الدقيقة.
وأحد أهم أسباب فقدان التفاصيل هو تعاقب الأجيال وفقدان الحس الفردي بوقع الأحداث وتفاصيلها.
والجدير ذكره في هذا المجال هو وجود ذاكرة موروثة بيولوجياً من خلال العوامل الوراثية، وقد تكون الغرائز في الأساس جزءاً من الذاكرة الجماعية البيولوجية للمخلوقات الحية.
هل للبنانيين ذاكرة جماعية؟
على الرغم من الكوارث والتجارب المرة والحروب المتكررة التي مرت على اللبنانيين، فقد بقيت كل مجموعة منهم تحتفظ بذاكرتها الجماعية الخاصة، وهذا ما كان واقع حال الحرب الأهلية سنة 1975 التي طحنت الوطن على مدى عقد ونصف، فعشية 13 نيسان 1975، اليوم الذي شكل الانطلاقة الرسمية لمسلسل التدمير اللبناني الذاتي، انقسم اللبنانيون الى ثلاث فئات من دون الخوض بالتفاصيل:
الفئة الأولى تضم مَن لقبوا أنفسَهم بالقوميين اللبنانيين، وإن في الحقيقة كانوا يقصدون ضمان استمرار المجتمع المسيحي، الذين اعتبروا أنّ لبنان فُصل على قياسهم وُوجد لأجلهم، فتعاملوا معه كأنه ملكية خاصة، وعندما طالب باقي اللبنانيين بالشراكة والمساواة، فضلت هذه الفئة أن تدمر الوطن على أن تتشارك فيه مع الباقين بناءاً على القول: «نحنا يا بدنا لبنان مثل ما بدنا يا أما عمرو ما يكون!».
الثانية ضمت من لم يقتنعوا أصلاً بحق لبنان بالوجود كوطن مستقل وكيان محدد، وشملت غلاة القومية العربية التي سترت على الإسلاموية، فتعاملوا معه على أساس أنه حالة موقتة، ونتاج لمؤامرة خبيثة (سايكس ـ بيكو) لا بد أن تزول يوماً. فتعاملوا مع الوطن والدولة على هذا الأساس، وشرّعوا الأبواب لكل ما أمعن تخريباً بمقومات الدولة، وكانوا مشاركين أو متفرجين بتجاهل مريب وشماتة كافرة.
أما الفئة الثالثة، فقد ضمت فوضويين وعقائديين وعبثيين من يمين ويسار وثوريين ومهمشين أعلنوا فشل التجربة اللبنانية فقرروا هدمها لإعادة بنائه كل حسب رؤيته، ولم يكن لدى أي منهم تصور لكيفية البناء.
قد يكون من قبيل التبسيط حصر تحليل أسباب انهيار الدولة بما سبق وبالتالي انطلاقة مأساة وطأة الحرب الأهلية، فقد كان للظروف الدولية والاقليمية دور خطير خصوصاً في فترة خاصة في السبعينات من القرن الماضي.
ولكن من المؤكد أنّ أحد أهم أسباب الانهيار هو فقدان إيمان أبنائه بتركيبته، وفقدانهم لذاكرة جماعية وطنية موحدة، وهذا ما شرع الأبواب للتدخلات الخارجية المتواطئة مع الشهوات الداخلية.
14 آذار وبناء الذاكرة
على الرغم من الآلام والمآسي المتشابهة على طرفي «الخط الأخضر» الذي فصل المناطق عن بعضها أثناء الحرب الأهلية، لم تتمكن هذه التجربة الجماعية من بناء عبر وطنية كافية لصناعة ذاكرة وطنية عامة، كما أن الظروف المتعمدة التي دبرها النظام الأمني بعد اتفاق الطائف ساهمت في استمرار الخط الأخضر الاجتماعي-السياسي، على الرغم من الزوال المادي لخطوط التماس.
لقد احتاج لبنان الى زلزال بحجم اغتيال رفيق الحريري كي يتمكن معظم أبنائه من بناء ذاكرة جماعية وطنية لأول مرة في تاريخهم، وهذه الذاكرة اليوم هي ما جمع مواطني 14 آذار من خلال الاستفادة من تجارب الحرب والأحلام الفئوية المرة، ومن خلال التطلع مجدداً الى لبنان كوطن مستقل وحر وسيد وآمن، ولكن بالوقت نفسه ديموقراطي ومتعدد.
وطن قادر على أن يكون جزءاً من العالم العربي من دون أن يفقد شيئاً من لبنانيته، وقادراً على أن يكون وطناً لبنانياً من دون أن يفقد شيئاً من عروبته، وقادراً على أن يكون ملتزماً الى أقصى الحدود بقضايا العرب ولكن محتفظاً بحقه بأن لا يكون ساحة الصراع الوحيدة.
وطن قادر على بناء علاقات وطيدة وحميمة ومفيدة مع العرب وغير العرب ولكن من دون أن يكون تابعاً أو مرتهناً بقراره السياسي والاقتصادي أو الأمني لأي منهم.
قادر على أن يكون واجهة العرب أمام العالم وواجهة العالم أمام العرب، والأهم أن يكون مساحة للحرية والتلاقي بين المسيحية والإسلام كما حلم مؤسسوه الأوائل.
قد يبدو كلامي اليوم نابعاً من رجل غلبه النعاس منذ سنوات فنام ولم يشهد ما حل بالمنطقة بأكملها، لكنه بالرغم من المصائب التي حلت بنا وبالمنطقة، لا يزال جزء منا متمسكاً بذاكرته الجماعية الخاصة وأحيناً المسلحة حتى الأسنان والمؤمنة حتى التعصب الأعمى بشمول هذه الذاكرة شعوباً ومجتمعات بعيدة لمجرد التشابه الطائفي معها.
ولا يكفي أبداً، مع جمال الفكرة، أن نصور أن الحرب أصبحت وراءنا بمجرد إقامة الحديث عن الشراكة الوطنية، فالواقع اليوم أخطر وأسوأ مما كان عشية 13 نيسان 1975.