IMLebanon

نيسان 1975… نيسان 2020، هل نتعلّم؟

 

تدخل اليوم ذكرى الحرب اللبنانية عامها السادس والأربعين، هذه الحرب التي خبت في العام 1989 بعد التوصّل الى توقيع وثيقة الوفاق الوطني وعرفت آخر فصولها الميدانية في 13 تشرين الأول 1990. يعتبر كثيرون أنّ الفترة ما بين العامين 1990 و2005 كانت استراحة للمحاربين تمّ خلالها إنتاج ظروف جديدة لمعاودة الإنقلاب على المعادلة الوطنية، وليستعيد الصراع زخمه مرة أخرى بأدوات وعناوين مستجدة، وأننا دخلنا منذ العام 2005 مرحلة مفتوحة من المواجهة السياسية ينبئ مسارها بالتحوّل الى مواجهة مجتمعية.

 

نستعيد هذه الذكرى اليوم ولبنان يقف على قاب قوسيّن أو أدنى من انفجار اجتماعي وسياسي، تستنهضه بقوة قرارات حكومية – يتم الترويج لها –  قرارات لم تجد سبيلاً سوى السطو على مدخرات اللبنانيين وصناديقهم ومصارفهم، لسدّ العجز الإقتصادي الذي تسببت به طبقة من السياسين وضعت يدها على كل شيء، الكهرباء والماء والاتصالات والمعابر والأملاك البحرية وعطلت القضاء وحوّلت المواقع الحكومية جزءاً من زبائنيتها، إلى جانب مصادرة قرار الحرب والسلم وصياغة سياسة خارجية وأمنية للبنان خلافاً للطبيعة.

 

ما يستدعي التوقف عنده في ذكرى الحرب اللبنانية ليس تفاصيل ما جرى في 13 نيسان 1975، بل الإندفاعة اللبنانية للمشاركة في جولات العنف وإمداد الجبهات بالمقاتلين، والحشد الشعبي وراء الأحزاب والتنظيمات المسلّحة أكثر من الحرب نفسها والأسباب التي دفعت بشرائح شعبية مختلفة، من مثقفين وعمال ومزارعين وطلاب من سكان الأرياف والمدن على السواء لحمل السلاح والاشتراك في القتال بالرغم من وجود العديد من المحاولات الحوارية.

 

إنّ محاكاة تلك الحقبة تدفع بالأسباب الإجتماعية والسياسية للقفز الى الواجهة. نقتطف منها الإضراب الشامل للمعلمين في أيار 1972 للمطالبة بتحسين رواتبهم والحق بإنشاء نقابتهم وقرار الحكومة حينها بصرف المئات منهم من العمل، وما تلاه في 11 تشرين الثاني، إضراب مفتوح لعمال مصانع غندور المنشآة الطليعية الصناعية التي تضمّ آلاف العمال لتحسين شروطهم والإعتراف باللجنة النقابية التي تمثلهم وسقوط شهيدين منهم، وصرف مئة من العمال الناشطين، وإضراب عمال شركة الريجي في كانون الثاني 1973 احتجاجاً على الاحتكار وسحب الرخص من المزارعين، الذي تلته تظاهرة مزارعي التبغ في النبطية، ولاقته تظاهرة عارمة في بيروت أثمرت إنتظام الفلاحين والمزارعين في نقابات واتّحادات، الاتحاد الوطني للعمال الزراعيين في آذار 1973 وفي نيسان إتحاد مزارعي التبغ. وكانت الصورة الساطعة لتهاوي الدولة في المهرجان الحاشد في سينما بيبلوس احتجاجاً على قانون الأحزاب الذي وضعته الحكومة حينها، حيث توّج المهرجان بإطلاق «تجمّع الأحزاب والشخصيات الوطنية» في حزيران، والذي سيُعرف لاحقاً بالحركة الوطنية اللبنانية، وليليه إعلان حركة المحرومين في آذار 1974. كل هذا كان يتمّ على وقع إنقسام حادّ حول نشاط منظّمة التحرير الفلسطينية التي أصبحت دولة داخل الدولة وفي ظلّ إصرار أركان المؤسسة الحاكمة حينها بأنّ الصيغة اللبنانية هي تجربة فريدة يجب أن تستمر.

 

اندفاع اللبنانيين حينها للمشاركة في جولات القتال لا تبرره فقط العناوين التي أُطلقت والتي يستعيدها اليوم بعض السياسيين المغامرين أو من دخل الحياة السياسية منهم  وأصبح في موقع القرار ولم تسمح له الخبرة المكتسبة أو حداثة السن أو رجاحة العقل فهم عناصر ومقوّمات تلك الاندفاعة. اللبنانيون بغالبيتهم  الذين جمعتهم الضائقة الاجتماعية والأفق السياسي المسدود اندفعوا للحرب. وفي حين كان الموضوع الفلسطيني مهماً لبعض غلاة اليسار فقد كان بالنسبة للفريق الآخر محاولة لامتصاص حّدة الصراع الاجتماعي الذي اخترق الطائفية وتغلغل في صفوف مختلف الشرائح، فكان لا بدّ من إثارة جو طائفي وتحويل الأنظار الى قضية أخرى.

 

ما أقرب ذلك الأمس البعيد قبل 13 نيسان 1975 الى اليوم. فعلى وقع المقاربات الحكومية لوضع اليد على مدخرات اللبنانيين جاء اجتماع بتاريخ 9 نيسان 2020، لنقباء المهن الحرة في بيت المحامي في بيروت بحضور مدير صندوقيّ التعويضات وتقاعد أعضاء الهيئة التعليمية في المدارس الخاصة ومشاركة ممثلين عن الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. رفض المجتمعون المسّ بالمدخرات الاجتماعية  والودائع المصرفية على أنواعها العائدة للنقابات والصناديق. نقيب المحامين ملحم خلف اعتبر المجتمعين  قوة مجتمعيّة تحمل آمال الشعب اللبناني، وهي ضميره الذي لن يكون غائباً عن أي أمر يطال الشعب اللبناني. التمسّك بالدستور هو ما يحمي المدّخرات والملكية هي في حمى الدستور. وهذه القوة المجتمعيّة هي طرف أساسي في أي مداولة تتناول التفاوض على هيكلة الدين العام أو إعادة هيكلة المصارف التجارية أو المصرف المركزي ولا يمكن لأحد إقصاءها. بيان نقابات المهن الحرة والبيانات التي تصدر من هيئات المجتمع المدني في موضوع الإصلاحات المطلوبة في قطاع الكهرباء والاتصالات ووقف الهدر في سدّ بسري والليطاني والبيانات التي صدرت عن الأطراف السياسية خارج الحكم التي أصبحت على يقين بأنّ المواجهة مع السلطة هي السبيل الوحيد لاستعادة جمهورها. كل ذلك يمثّل أكثر من جرس إنذار للسلطة لعدم تكرار التجربة.

 

لا تبدو الحكومة جاهزة للثورة على ظروف تشكيلها  واقتناص فرصة السير بالإصلاحات. ولكن تجربة 1975 تؤكّد أنّ الثورة إذا لم تحدث من فوق فلا بدّ لها أن تحدث من تحت بأخبث الأشكال وأعنفها. ففي بلد تُعرّف حقوق البشر وواجباتهم على أساس الإنتماء للطائفة سرعان ما سينزلق الاحتقان الاجتماعي الى انقسام مناطقي وطائفي يفاقمه نزاع سياسي يدور بين حديّ الإصلاح والأمن ويتمحور حول السلاح غير الشرعي.

 

* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات