كلام في السياسة |
في زمن التشكيك بلبنان وطناً ودولة وكياناً واحداً، كثرت النظريات والاجتهادات. في تلك الأيام كتب أحد المفكرين «التعدديين»، بحثاً معمقاً حول المسألة، يبدأ بجردة شاملة. يقول: فلنأخذ كرونولوجيا تاريخنا المتزامن على هذه الأرض، ولنستعرض ردة فعل كل من مسيحييها ومسلميها، حيال كل محطة مفصلية وأساسية من محطاته. يتابع استحضاره لمأساتنا عارضاً كالتالي: سنة 1920، محطة أساسية اسمها ولادة لبنان الكبير.
أكثرية المسيحيين كانت معها. أكثرية المسلمين كانت ضدها. سنة 1943، محطة أساسية أخرى اسمها إنهاء الانتداب الفرنسي. أكثرية المسلمين كانت معها. أكثرية المسيحيين كانت بين فتور وتردد ومعارضة مكتومة. رغم كل احتفاليات كتاب التاريخ المدرسي عن بشارة الخوري. ففي النهاية لم يكن قبول إميل إده بالتعيين الرئاسي الفرنسي منبثقاً من عدم، ولم يكن تشييع المسيحيين المهيب لإده في زمن الاستقلال وعهد الكتلة الدستورية، مؤشراً على فراغ!
بعدها جاءت الخمسينات، وأطل عبد الناصر. أكثرية المسيحيين كانت ضده ومع كميل شمعون في حلفه الأيزنهاوري. حتى ولو حول لبنان مجرد عبارة إلى بغداد. أكثرية المسلمين كانت مع «الهرم الرابع» وعروبته، حتى ولو حكمت لبنان بواسطة عبد الحميد غالب، أو حتى ولو أذابت فرج الله الحلو الماركسي العنيد، بالأسيد في عهد السراج. في الستينات، جاء السلاح الفلسطيني. أكثرية المسيحيين كانت ضده. أكثرية المسلمين كانت معه. حتى انفجر البلد. بعد انفجاره دخل السوري بجيشه إلينا، ليفضحنا في أسوأ مفارقة تناقضية مضحكة مبكية. فحين تكون أكثرية مسيحية مع السوري، تصطف أكثرية مسلمة ضده. وحين تنتقل الأكثرية الأولى إلى معاداة السوري نفسه، تنتقل الأكثرية المسلمة الى أخوّته الفورية. ثم جاء الاسرائيلي، فوقفت أكثرية مسيحية معه، ولو بصمت المريب وكتمانه. فيما كانت أكثرية مسلمة ضده… واستمر الاصطفاف نفسه مع الطائف و13 تشرين والوصاية، وكل محطة تاريخية وتأريخية لتجاور هؤلاء البشر على هذه الأرض…
يومها كان ذلك التفكير يوصي بأن لبنان الواحد انتهى. وأن كل ما في حياة اللبنانيين يؤكد ذلك. أقدامهم تؤكد ذلك بالفرز الطائفي جغرافياً. أصواتهم تثبت ذلك بالانتماءات الخارجية المتضادة. وأفكارهم تكرس ذلك بالانتسابات إلى منظومات شمولية متناقضة، في الله والإنسان، في السماء والأرض. هكذا صار يفكر كثيرون. وهكذا صار المناخ اللبناني المعمم، وإن غير المعلن ولا المُقال.
إلى أن جاء زلزال العام 2005. في لحظة تبدل كل شيء. انقلب كل المشهد. صحت نبوءة كلود شيسون حول شرقنا البائس. أنه مستنقع قد لا يتغير فيه حرف خلال قرن. وقد يشهد انقلاباً جذرياً وجينياً في خلال ليل واحد. سقط كل المشهد السابق. سقطت اصطفافاته وأزيلت خطوط تماسه. للمرة الأولى منذ توفيق يوسف عواد، شهيد الحرب أيضاً ــــ للمفارقة ربما ــــ صارت لبيروت مجدداً ساحة. ولو ساحتين. لكنهما عادتا طاحونتين لاصطفافات مذهبية وطائفية ومناطقية وجهوية مختلفة. عاد فجأة حلم لبنان واحد، أو وهمه. وقف حسن نصرالله متحدثاً عن 10452 كيلومتراً مربعاً، ضمنها مزارع شبعا، فصفق له ممثل سمير جعجع، حليفه الانتخابي يومها. ووقف سعد الحريري معلناً لبنان أولاً، وسط ورثة شعار أن لا صوت يعلو فوق صوت فلسطين.
فجأة، أحس الناس في الساحتين أنهم صاروا بشراً. فجأة شعروا أنهم مشروع مواطنين في جنين وطن. لمجرد أنهم صاروا يتقاسمون وجداناً مشتركاً، أقله حيال حياتهم وموتهم. حيال كرامة من بقي منهم، وقدسية من سقط ضحية أو رحل شهيداً. استعادوا وطناً بخصوصيات كثيرة، فصارت الشهادة عندهم ساحات عدة بمنزلة موحدة…
كل هذا الحلم، كل هذا الأساس، كل هذه الضرورة البنيوية لوطن وشعب، اهتزت يوم أمس. لحظة وقف لبناني واحد، في أضيق زاروب طرابلسي، رافضاً شهادة مليون ونصف مليون أرمني، هم فعلياً وجينياً أجداد مئتي ألف مواطن من مواطنيه. حين رفع لبناني واحد علماً كيدياً، أو شعاراً ثأرياً، أو لافتة شماتة أو انتقام، لا لشيء، إلا لأن مواطناً آخر شريكاً له في الوطن نفسه، يرى فيها طعم دمه المراق ظلماً وذبحاً وإبادة. حين تخاذل وزراء في حكومة «مصلحة وطنية» مزعومة، عن اتخاذ موقف وطني متضامن مع الضحية في وجه الجلاد، مع الشهيد في وجه السفاح، مع الشيخ الشهيد أحمد طبارة إمام جامع النوفرة في بيروت، ضد جمال باشا المحتل الجزار … عندها، أمس، بدا أن الوطن الواحد في خطر، وأن الشعب الواحد في وهن، وأن الركيزة الأولى لمجتمع عصري ديمقراطي، أي إرادة العيش معاً، في خلل. لأن أول الوطن أن يكون كل شعبه واحداً في شهادة كل راحل. أياً كان اسمه. أن يرفع صوتاً واحداً في 14 شباط. وأن يقول صرخة واحدة في 24 نيسان، أقله مرة كل مئة سنة: كلنا اليوم أرمن!
أكثر ما يؤلم في حدث الأمس، أنه وقع تحت ناظري رجل دولة وميثاق. هو نفسه ابن الرجل الذي كان اسمه: لبنان واحد لا لبنانان.