مرور الذكرى الأربعين لانفجار الحرب اللبنانية في الظروف العربية الراهنة، يذكرنا بأن لبنان يحتل، مع الأسف، مرتبة ممّيزة، ولكنها غير مشرِّفة، في تاريخ الصراعات الدموية داخل المجتمع العربي. فحربه المشؤومة هي أوّل حرب أهلية حقيقية، طائفية على الأخصّ، في الدول العربية، منذ تشكيلها بعد الحرب الكونيّة الأولى.
قياساً بما آل إليه «النموذج اللبناني» بعد أربعة عقود، كيف ستكون صورة البلدان العربية التي تتعرّض الآن لزلازل الحروب الطائفية؟
لبنان، مقارنة بما قبل سنة 1975، لم يهتدِ بعد إلى الوحدة الداخلية التي تؤسّس لقيام دولة «طبيعية» ونظام سياسي مستقرّ. إنه يعاني من التفكك السياسي وانفجار الحقد العلني بين المكوّنات الطائفية والمذهبية، وهو يشكو من تراجع في الأوضاع الأمنية وضعف الدولة أمام الجماعات المسلحة، وانقلاب في القيم السياسية سمح بارتفاع لا سابق له في منسوب الفساد. يضاف إلى ذلك تدهور الحياة الاقتصادية وتردّي الشروط الاجتماعية التي تعيشها الكثرة الساحقة من اللبنانيين، فلبنان لم يسترجع بعد مستوى الدخل الفردي الذي كان عليه قبل بداية الحرب، ناهيك عن الارتفاع الشاهق لجبل الدَين العام، الذي كاد يصل إلى ضعفي الناتج المحلي. ولا ننسى الانهيارات النقدية التي عرفتها البلاد خلال الحرب، فأطلقت موجات التضخم العارمة ورمت فئات واسعة من اللبنانيين إلى ما دون خط الفقر.
ليست هذه محاولة لاستقراء مستقبل المجتمعات العربية التي ابتليت بالحروب الأهلية في السنوات الأخيرة، فلا مبرّر للاعتقاد أنها ستسلك بالتأكيد نفس المسار الذي عرفه لبنان خلال الحرب وبعدها. من الأرجح أن الظروف التي ساعدت لبنان على استعادة وحدته، على نواقصها، قد لا تتوافر في البلدان الشقيقة.
فلبنان توحّد بفضل اتفاق إقليمي مدعوم دولياً تولّت دمشق تطبيق «نسخته السورية» بالقوة. القوّة التي أوقفت إطلاق النار، وحلّت الميليشيات، وانتزعت (معظم) سلاحها، ووحّدت الجيش، وعدّلت الدستور، واستعادت القصر الجمهوري وشكلت الحكومات (كيفما كان) وأعادت تأسيس البرلمان بالتعيين وبشبه الانتخاب.
والدول العربية الأخرى التي يفككها الاقتتال لا تتوحّد إلا بالقوّة، كتلك القوّة التي «حظي» بها لبنان بعد حربه المشؤومة. فالمجتمعات العربية لا تملك أي حافز تلقائي لاستعادة أشكال الكيانات السياسية التي كانت قائمة، قبل الاحتلال الأميركي للعراق وثورات الربيع العربي. فالانتماءات القبلية والطائفية والمذهبية هي الجاذب الحقيقي للولاءات في البلدان الشقيقة التعيسة، وإذا تُركت هذه البلدان على سجيّتها فهي ستنتج بدون شك شيئاً آخر، شيئاً لا يعجبنا ولا يستجيب لأحلامنا القومية الرومانسية.
بعد زوال الاستعمار القديم، يعود الفضل في صمود الكيانات العربية المقصودة إلى قادة يجيدون فن السلطة، يعرفون كيف يمارسونها بالشعار وبالنار، فمن أين نأتي بأمثالهم لكي يستعيد العالم العربي الصورة التي كان عليها؟
لا ضرورة للجواب، فليس هناك صفقة معروضة بالتنازل عن الحرية والديموقراطية وكرامة الإنسان مقابل استعادة الوحدة التي فقدناها.
من المحزن والمحبط أن نكتشف أن الحكم المركزي الشديد والظالم هو ضمانة الوحدة، وترك الحرية «للجماهير العربية» يقود إلى عصبيات متخلفة ويفجّر المجتمعات.
مع ذلك، لا تنازل عن الإيمان بالحرية، وحل هذا الإشكال متروك للزمن.