تعاملت السلطة اللبنانية مع انفجار مرفأ بيروت منذ اللحظة على أنّه «فرصة لفكّ الحصار» عنها، وعملت على استثمارها لتحويل الدعم الآتي باسم المنكوبين من أبناء العاصمة إلى عناصر دعم للتحالف الحاكم، وهذا ما جسّده تصريح رئيس الجمهورية ميشال عون وممارسة أركان هذه السلطة. فقد اعتبر عون الكارثة «فرصة» ولم يتصرّف على أنّها نكبة نزلت بالعاصمة وأهلها تستلزم الاستنفار التام لصالح التعويض السريع للعائلات التي خسرت أبناءها، وتأمين الإيواء الكريم لها قبل وصول موسم الأمطار.
لا نعرف أين ذهبت وعود الرئيس عون بالتزامن مع المؤتمر الدولي الذي انعقد لدعم لبنان بعد كارثة الانفجار، يوم صرّح بأنّ المناطق المنكوبة سيتمّ تقسيمها إلى مربعات تتولى كلّ دولة إعادة إعمار ما تتولاه وما تتعهد به في إطار إعادة الإعمار.. ولا نعرف كيف يمكن تفسير اقتطاع كميات من المساعدات لتذهب باتجاه الجنوب، كما كشف ناشطون أرفقوا معلوماتهم بصور ومقاطع مصوّرة شاهدها اللبنانيون.
استدراج السلطة للمانحين
ما نعرفه بشكلٍ أكيد، أنّ السلطة ماكرة بما يكفي لتستدرج الجهات المانحة إلى مساحات الاستغلال والاستثمار لصالح وسائلها الزبائنية وتوظيف أتباعها في مفاصل امتصاص المساعدات وإعادة تدويرها واستثمارها سياسياً، وما جرى فعلياً أن المنح الإنسانية الآتية انقسمت إلى مسارب عدّة، أهمها:
معظم المساعدات القطرية والإيرانية سلكت طريقها إلى مناطق نفوذ «حزب الله»، بل إنّ هناك من يتحدّث عن تحضير اتحاد بلديات الضاحية استمارات كشف على المنازل التي تقع في نطاقها وتحتاج إلى تأهيل أو تطوير، للإفادة من المساعدات المخصّصة لإعادة إعمار المناطق المتضرِّرة وإدراج مئات المنازل في الضاحية وامتداداتها في إطار هذه العملية، رغم أنّها لم تتعرّض لأي أضرار.
إبعاد أهل الشمال من العمل في مرفأ بيروت
كما توقف المراقبون عند ما يشبه حصرية تواجد اتحاد بلديات الضاحية على أرض مرفأ بيروت المنكوب، وما يحمله ذلك من علامات استفهام، خاصة أنهم حضروا بآلياتهم ووسائلهم اللوجستية، ثم إنّ الإتحاد يرصد الآن كلّ عمليات الاستعداد للإعمار، ويحضّر قوائم بالعمال الذين سيتمّ توظيفهم، بعد أن جرى إبعاد الكثير من أبناء الشمال وعكار والاستغناء عن خدماتهم بعد الانفجار.
باسيل يستولي على المساعدات.. بمستشاره
لا يمكن تجاهل دخول النائب جبران باسيل لاعتراض خطّ سير المساعدات، من خلال تعيين مستشاره في المهمة الأكثر اقتناصاً للإعانات وللتحكم في مسارها، من خلال الإتيان بالمدعو جو أندريه رحّال وفرضه في موقع «مستشار رئيس السلطة التنفيذية في بلدية بيروت للشؤون الاجتماعية ولمتابعة ملف الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة».
ولفهم خطورة ما أقدم عليه المحافظ مارون عبّود أوكل إلى (مستشار باسيل) رحال هذا القيام بـ«جمع قاعدة البيانات عن المواطنين المتضرّرين من جراء انفجار بيروت وتنظيم قاعدة بيانات تضمّ الجهات الرسمية والجمعيات والمؤسّسات الأهلية والدولية والمواطنين الراغبين بتقديم المساعدة وإسعاف المتضرّرين والإشراف على توزيع هذه المساعدات بالتنسيق مع الجهات والإدارات الرسمية المعنية كافة وبالتعاون مع فريق عمل داخلي»، من دون أن ينسى القول إنّ كلّ هذا العمل المطلوب هو «بدون أيّ مقابل».
السؤال الذي يقفز للأذهان هنا: كيف يمكن لمستشار أن يقوم بأعمال تنفيذية تختصر كلّ ورشة الإغاثة وتحصرها في يديه ولا تترك صغيرة ولا كبيرة إلاّ جعلها المحافظ «الآدمي» تحت سيطرة «المستشار».
هذه التفاصيل الهامة والدقيقة، لن يراها المانحون، الذين يرون أنّ الجيش اللبناني هو الذي يشرف على التوزيع، لكنّ دخول باسيل، عبر مستشاره على صلب العملية من ألفها إلى يائها، يدفع للتأكيد بأنّ ما يأتي لنجدة أهل بيروت ستبتلعها حيتان السلطة ولن يبقى للناس إلاّ الفتات، خاصة عندما نستحضر نهم باسيل بالاستحواذ على كلّ شيء، وأنّه لا يضع يده على ملفٍّ إلاّ ليجعل منه باب استحواذٍ وهيمنة على الموارد.
لماذا لا يتبرّع الرؤساء؟
لماذا ننتظر المساعدات من العرب والأجانب ولم نر الرؤساء وأصحاب الكتل المالية والنيابية يتبرّعون، ولو بقرش واحد، ولا يستحون من رؤية اللبنانيين مقيمين ومغتربين يتبرّعون من حرّ مالهم الذي جنوه بعرق جبينهم، بينما نرى أركان الحكم يتسابقون لاستجداء المعونات ثم لوضع أياديهم على المساعدات الوافدة، عبر أتباعهم، من خلال تعيينات استنسابية ووضع اليد على كيفية توزيع المواد المتدفـّقة على أرض مطار الشهيد رفيق الحريري الدولي، فترى جزءً منها يُحمل جنوباً وجزءً آخر «يختفي»، ورغم ما نراه على شاشات القنوات التلفزيونية من هبوط طائرات متواصلة تحمل المساعدات الصحية والغذائية وغيرها، إلاّ أنّ شكاوى المستشفيات والمواطنين المنكوبين لم تتراجع، بل يتّضح يوماً بعد آخر أنّ السلطة في وادٍ ومصائب اللبنانيين في واد.
صرخات المناطق: مستشفى يستغيث
يواجه اللبنانيون كوارث متداخلة: سياسية تتمسّك بالنواجذ بفسادها وطغيانها على الدولة، ومالية اقتصادية أوصلتنا للانهيار، وصحية بوباء كورونا، وأخيراً وليس آخراً تدمير بيروت بانفجار شبه نووي.
لذلك، تحوّلت المناطق اللبنانية إلى مناطق منكوبة، خاصة في المجال الصحيّ والاجتماعيّ، مما جعل الأصوات ترتفع مطالبة بأن تشمل الإغاثة الطبية والصحية واللوجستية المناطق اللبنانية المحتاجة، وخاصة الشمال وعكار والبقاع، نظراً لأنّ كميات المساعدات في هذه المجالات تفيض عن الحاجة في العاصمة مع استمرار تدفقها، مما يجعل توجيهها للمناطق سياسة رشيدة، خاصة بعد أن كشف تفجير المرفأ وجود كميات ضخمة من الأدوية والموادّ الطبية منتهية الصلاحية محجوزة ربما منذ حرب تموز 2006 بدون أن تصل إلى محتاجيها.
وتبرز هنا الكارثة التي حلّت بمستشفى أورونج ناسو الحكومي في طرابلس، الناجمة عن الحريق الذي أصابه مؤخراً، مما أوقع كارثة صحية أصابت الشرائح الأكثر فقراً وقسماً كبيراً من الموظفين المتعاقدين، وهو المستشفى الحكومي الوحيد في لبنان المخصّص للولادة، كما أنّه يقدّم أكثر من ألف حالة غسيل كلى شهرياً.
الأطفال حديثو الولادة.. فقدوا حاضناتهم
يتألّف المستشفى من قسمين: المبنى «أ» والمبنى «ب». وقد نشب الحريق في المبنى «أ» في الطابق الرابع وأتى عليه بشكلٍ كامل، كما طال الطابقين الثالث والخامس بشكل جزئي، حيث أصاب ألواح الكهرباء والأسِرّة وآلات العناية بالأطفال وآلات ضخّ الأوكسجين مما أدى إلى تعطل المبنى بشكلٍ كامل، بما يحويه من قسم التوليد وقسم العمليات الولادية وقسم العناية بالأطفال وغرف استقبال المرضى.
يواجه المستشفى اليوم إشكاليتين تستدعيان المعالجة العاجلة:
تأهيل المستشفى لإعادته سريعاً إلى الخدمة، كونه يغطي حاجة الشريحة الأكثر حاجة من المواطنين في طرابلس والشمال. وقد أدّى الحريق إلى وقوع نقصٍ كبير في قسم العناية بالأطفال، وتحديداً الحاضنات للولادات المبكرة ذات التكلفة الباهظة والتي يعجز الفقراء عن تأمينها، وهذا سيعرّض العدد الأكبر من هذه الشريحة لخطر الموت نظراً لعجز الأهالي عن تأمين المبالغ المطلوبة في المستشفيات الخاصة.
وجود أكثر من ستين موظفاً متعاقداً يقبضون رواتبهم بالساعة خسروا أعمالهم ومن غير المعروف متى يمكن أن يستعيدوا وظائفهم، خاصة أنّه ليس هناك أفقٌ واضح لعملية التأهيل، وهؤلاء يحتاجون إعانة عاجلة لا يجدون لها مصدراً حتى الآن في ظلّ كارثة اقتصادية واجتماعية تضرب البلد، وجائحة صحية تتمثل في وباء كورونا الذي يتفشى أكثر فأكثر في صفوف اللبنانيين.
نحو توسيع خطط الإغاثة
شكّل المستشفى مآلاً للعائلة المحدودة الدخل في طرابلس والشمال منذ تأسيسه ومروراً بتطويره حتى اليوم، ولا شكّ أن الالتفاتة إليه لإعادة تأهيله وإلى الوضع الصحي العام في طرابلس، سيكون في إطار الأهداف الإنسانية الداعمة للشعب اللبناني، في عاصمته المحروسة وفي كلّ مناطقه المنكوبة، المحتاجة لبلسمة جراحها العميقة والتي لم تجد مغيثاً، فبقيت غارقة في معاناتها.
يجتاح وباء كورونا لبنان، فتفتقد طرابلس إلى القدرة على مواجهته، ولعل المستشفيات الميدانية مخرج عاجل، تُشكر عليه الدول والجهات المانحة، وتستوجب وضع استراتيجية أوسع لتشمل الإغاثة كامل المناطق المنكوبة صحياً واجتماعياً واقتصادياً وإنسانياً.