كأن ما من ثورة تستقيم من دون قتل الضعفاء، وما من تغيير يتحقق من دون ضحايا ابرياء. وكأنه كتب على الأقليات في العالم العربي ان تدفع دوماً ثمن استمرار الانظمة او استبدالها، وثمن نجاح «الثوار» او فشلهم. فإذا وصلوا الى السلطة نكّلوا بها، واذا صمد اعداؤهم في الحكم نكّلوا بها ايضاً ولاموها على اخفاقهم، واذا استمر الحال في سجال واحتراب، دفعت من دم ابنائها وتهجيرهم أتاوة المراوحة بين متمسك بالحكم وساعٍ الى التغيير.
واذا كانت الانظمة العربية عموماً اساءت الى الاقليات، وخصوصاً المسيحية، فأجبرتها على تحالفات وفرضت عليها تأييداً غير مشروط، رغم انها حجبت عنها حقوقها المشروعة، وعاملت افرادها بصفتهم غير مكتملي المواطنة، فإن الذين ثاروا على هذه الانظمة لم يكونوا اكثر رأفة بالاقليات.
ومع ان الايزيديين في العراق يتصدورن المشهد بعد حملة القتل والسبي والتهجير التي شنها «داعش» ضدهم خلال العام المنصرم، ولا تزال مستمرة اليوم، الا ان الاقلية المسيحية في بلاد الرافدين، تظل الهدف المفضل للمتطرفين، وتتعرض لموجات عنف متكررة، منذ الحرب الايرانية – العراقية في ثمانينات القرن الماضي، وصولاً الى فظاعات «الدولة الاسلامية» الذي هاجم عناصره الكنائس في قرى الموصل ومدنها وأحرقوها ورفعوا اعلامهم عليها.
فالمسيحيون العرب مستهدفون في دولهم وخارجها اياً تكن انتماءاتهم وولاءاتهم، واياً يكن موقعهم في خريطة الاوطان والمجتمعات. فلا هم ناجون اذا عارضوا «الثورة»، ولا هم مصانون اذا ساندوها. مطلوب منهم على الدوام ان يتخذوا موقفاً واضحاً الى جانب مجموعات وشعارات غامضة، وان يكونوا مع هذا وذاك وضدهما في آن، إذ ليس مسموحاً لهم بالحياد، او النأي بالنفس على الأقل.
ففي سورية، نكّل النظام والمتشددون من الثائرين عليه خلال السنوات الاخيرة بالمسيحيين، كل بحجة محاربة الآخر وبذريعة تطهير «مواقع استراتيجية» صادف انها مدنهم وقراهم، علماً انه ليس في سورية مناطق خالصة الانتماء الديني او المذهبي على نحو تام. وسادت خرافة لدى متطرفي «النصرة» و «داعش» بأن قتل المسيحيين وتشريدهم يضعف النظام الذي اتهموهم بمساندته، متجاهلين عمداً حقيقة ان المسيحيين لم يهادنوا نظام عائلة الاسد باختيارهم، بل فُرض ذلك عليهم فرضاً، مثلما فُرض على سائر السوريين، الى ان قامت الانتفاضة عليه.
النظام المستبد هو من وزع الادوار على الطوائف بحسب حاجته، فداهن بعضها وأقصى الآخر. والمسيحيون السوريون لم يكن لديهم اي خيار سوى التعايش مع النظام، اي نظام، كي يحموا انفسهم من البطش، ومصالحهم من الزوال.
وفي لبنان، يحول تعنت «حزب الله» واستئثاره العملي بالسلطة تحت شعار «المقاومة»، من دون انتخاب رئيس للجمهورية، وهو المنصب المسيحي الاول في هذا البلد المستباح، بعدما تناقص عدد مسيحييه تدريجاً خلال العقود القليلة الماضية ليصل الى نحو ثلاثين في المئة من السكان فقط، بعدما كانوا يزيدون عن نصفهم في الخمسينات، ما يهدد بتغيير هويته كبلد التقاء وتعدد.
وفي مصر، استفاد المتطرفون من وصول «الاخوان المسلمين» الى الحكم بعد سقوط نظام مبارك، ليصدروا «فتاواهم» التحريضية ضد الأقباط ويمارسوا التجاوزات في حقهم ويهاجموا كنائسهم.
اما في ليبيا، فتتكرر حوادث القتل الجماعي للمسيحيين العرب والاجانب والتنكيل بهم من دون سبب. وكان آخرها خطف 22 قبطياً مصرياً قبل ايام، ثم الافراج عن بعضهم بعد تدخلات. وكان ذنبهم الوحيد انهم ذهبوا الى البلد الجار لكسب القوت مثل أي وافد آخر، من دون ان تكون لهم اي علاقة بما يجري في بلد القذافي السابق، حيث يحاول المتشددون فرض قانونهم.
لقد حوّل الاسلاميون المتطرفون فئات من الشعوب العربية ساهمت في تقدم دولها وازدهارها وأغنت تنوعها وثقافتها وتراثها، الى «فشة خلق» ومكسر عصا. بينما لم يستطع المسيحيون الركون في دولهم الى قوانين وأعراف تحميهم وتقيهم غائلة التشدد، فآثر الكثير منهم الهجرة كي لا يكونوا مواطنين، ثم ضحايا، من الدرجة الثانية في بلادهم. فهل تعي الدول العربية وشعوبها خطورة ما يحدث، قبل فوات الأوان؟