لم يعُد خافيا على أحد إصرارُ المسؤولين في حزب الله على السَّير قُدُما في سَعيِهِ ومُشاركتهِ تَحقيقَ مآربَِ الثَّورةِ الايرانيَّةِ على امتِدادِِ السَّاحَةِِ العَرَبيَّة.
كان بإمكان المُعارضين البَحرينيين عقد مؤتمراتِهِم ومُتابعةِ أنشِطتِهِم السِّياسيَّةِ التحضيريَّة على نِظامِ الحُكم في مَملكَةِ البَحرين من دون إثارَةِ كُلِّ هذا الضَّجيج، لو سَعوا لإقامتِها في أيَّةِِ دولةٍ عربيَّة غير خليجِيَّة، أو أوروبيَّةٍ توفرُ قوانينُها هامِشاً مقبولا من الحريَّةِ لمُمارسَةِ النشاطات السِّياسيَّة. السُّؤال الذي يَطرحُ ذاته لمَ لا تُجرى مثلُ هذه النَّشاطات داخلَ إيران ذاتها، وهي المَتحمِّسُة بل المُحبِّذة لإقامتها في لبنان والدَّاعمُ لها، باعتبارها تصبُّ في صالحِ تصديرِ ونشرِ إيديولوجيَّاتِ ثورتِها الاسلامِيَّةِ كما تُحبُّ أن تُسمِّيَها.
إن القرار مُتَّخذٌ بالإعلان عن قِيامِ نشاطاتٍ للمُعارضَةِ البحرينيَّة في لبنان بالتَّحديد، والقرارُ أكبرُ مما حاول البعضُ تصويرُهُ على انه مُجرَّدَ قرارٍ بلدي تعاطفي مع معارضة في دولة شقيقة، اتَّخذتهُ بلديَّةُ الغبيري، المحسوبةُ على الحزب، لأن القرار ينطوي على أبعادٍ سِياسِيَّةٍ تُحاكي تَوجُّهاتِه الإقليميَّة.
القرارُ اتُّخذ أو بالأحرى مُتَّخذ عن سابقِ إصرارٍ وتَصميم، ومن أعلى المراجِعِ، ورُبما يأتي في إطار تَّوجيهاٍت خارجيَّة صادرة عن أعلى المَراجِعِ الثَّورَيَّةِ في إيران.
القرارُ مُتخذٌ لا لأهميَّةِ الانشِطَةِ المُشارِ إليها بالنسبةِ للمُعارَضةِ البحرينيَّة، ولكن نكايَةً بدولِ الخليج العربي كما يُوحي واقعُ الحال.هذا على المُستوى الإقليمي، ولكن ماذا خلفَ هذا القرارِ من إيحاءاتٍ ورَسائلَ على المُستوى اللبناني؟ هل يريدُ حزبُ الله أن يُعلنَ لمن يهمُّهُ الأمر انه مُمسكٌ بسياسة الدَّولةِ اللبنانيَّةِ الخارجيَّة كما يمسكُ بقرار الحربِ والسِّلم، وبالتالي إثباتٌ لتحكُّمِهِ بمواقِفها الخارِجيَّةِ دوليَّا وإقليميَّا، أم أنه أرادَ من ذلك أن يَضربَ بحَجرٍ واحدٍ أكثرَ من عُصفور؟ وهل قرارُه هذا مَحسوبُ النتائج؟ أم أنه مُجردُ مُغامراتٍ غير مَدروسَةٍ؟ وإن كان من الصَّعبِ على المُحلِّلِ أن يَجدَ لها وََجها إيجابيَّاً واحِدا، اقلُّه بالنِّسبة للبنان عامة بما في ذلك بيئةِ حزبِ التي تُعاني ما يُعانيه الشعب اللبناني مَعيشيا وماليَّا.
والحقيقةُ أني كنت قد وجَّهت هذا السُّؤال أكثر من مرة وفي أكثر من مُناسبَةٍ لأصدقاءٍ ومُحلِّلين سِياسيٍّين مُقرَّبٌين من الحِزبِ، إلا أن إجاباتهم لم تكن بشافيَةٌ كافيةٍ على الأقل بالنِّسبة لي، وكنت أرى فيها مُجرَّدُ تَغطيَةٍ أو تبريرٍ لشيء محسوم وغبر قابل للنقاش، وعدا كونه غير مُقتنِع للمدافع عنه.
التَّساؤلاتُ كثيرةٌ ومَشروعة، فهل تقصَّدَ الحزبُ مُعاجَلةَ وزيرِ الداخليَّةِ بقَطعِ الطَّريقِ على أيَّةِ مَساع ترمي إلى رأب الصَّدعِ الثنائي الابعاد (سياسي – كبتاغوني) الذي ظهر مؤخرا ما بين لبنان والمملكةِ العربيَّة السعوديَّة، أم هو بمثابةِ رِسالةٍ جوابيَّةٍ موجَّهةٍ أيضا لدَولةِ الرَّئيس نجيب ميقاتي ردا على التَّعييناتِ العَسكريَّةِ التي أُقرَّت مُؤخرا في مجلسِ الوزراءِ من دون التنسيق مع ما يسمى بالثنائي الشِّيعي وبغفلةٍ من وزرائه، والتي أرى أنها لن تَبصُرَ النُّورَ قبل تعيين نائبِ مُديرِ عام أمن الدولة.
إن الإمعان في السَّير قُدُما في كل بما يُغضِبُُ الدُّول الخليجيَّةُ الشَّقيقةُ ليس بقرارٍ عادي عابِر، إنما هو قرارٌ مِفصلي استراتيجي يُعبِّرُ عن توجُّهٍ مُستقبلي يهدف إلى ضربِ العلاقات اللبنانيَّة – السعوديَّة، وينطوي على إحراجٍ لدولةِ الرَّئيس نجيب ميقاتي، قد يقضي على مَسعاهُ الرامي إلى التَّقريبِ ما بين لبنان الدولة ودول الخليج.
لقد عرَّى هذا القرار، مرَّة لكلِّ المَراتِ، توجُّهاتِِ الحزبِِ التي تُغلِّبُ مَصالحَ الثورَة الإيرانيَّةِِ على مصلحةِ لبنان، ولكن بالتَّوازي مع ذلك عَرَّى أيضا الطَّائفةَ السِّنيَّةِ في لبنان، وكشَفَ تخاذُلَها في دِفاعِها عن بُعدِها العَربي، كما عرَّى أيضا باقي المُكوِّناتِ اللبنانيَّةِ غير الدَّائرةِ في فلك قوى المُمانَعَة، وأظهرَ ضَعفَها، وكشف عن أن كُلَّ مُحاولاتِ الحدِّ من جُموحِ حزبِ الله في الانخراط بالصِّراعِ الإقليمي قد باءَت بالفَشَل.
وها هو الحزبُ يًثبتُ المرَّةَ تِلو المرَّة أنَّه لا يُعيرُ أهميَّةً لأصواتِ شُركائه في الوَطنِ المُعترضَين على أدائهِ وتَوجُّهاتِه الخارجيَّة، إلى حد يَدعونا للقولِ أنَّه لم يعُد يعيرُها أي اهتمام، يصرُّ عل تجاهلها وعدمِ الردِّ عليها.
مَرجعِيَّةٌ واحِدةٌ لبنانيَّةٌ تُقلقُ حزب الله بمواقِفِها وصوتٌها الصَّادِحِ في صباح كلِّ أحدٍ وفي مختلف المناسبات هي بكركي بشخصِ بطريركها، والذي يبدو أنه قد اتَّخذ قرارا نهائيا لا رُجوعَ عنه، يقضي بالمُواجَهةِِ للحدِّ مما يَعتبرُهُ تهوُّراتِ الحزب الإلهي، ودفعِهِ بلبنان إلى مواقِفًَ لا تُشبهُه، او لا تتناسَبُ مع تاريخِِهِ ولا مع تنوُّعِهِ الحَضاري والثَّقافي والدِّيني.
نعم وَحدَها مواقِفُُ البََطريرك الماروني بما يُمثِّلُ من ثِقلٍ مَسيحي مُؤثِّر لبنانيَّا ومَسموعٌ غربِيَّا، تُقلقُ مَضاجِعَ المَسؤولين في الحِزبِ، رغمَ استِظلالهِ بغطاءٍ مَسيحي، وفَّر ويُوفرَه له التَّيَّارُ الوَطني الحُرِّ.
في المقلبِ الآخرِ يقفُ سيِّدُ المختارة حائرا، وكأنّه يلتقطُ أنفاسَهُ، مُستفيدا من مرحلةِ ما قبلَ الانتخاباتِ التي يرتاحُ لقانونِها الذي راعى مَقاساتِهِ السِّياسِيَّة، ليختلي بنفسِهِ في جلسةٍ تأمُّليَّة، تُمليها عليه حِساباتِ موازينِ القوى الدَّخليَّة. في الوقت الذي تبدو فيه الطَّائفةُ السِّنيَّةُ في لبنان قد أقصَت ذاتها، وبخاصَّة بعد أن رَفعَ أحد أقطابُها رايَةَ الإستِسلام، ودارً الإفتاءِ تبدو وكأنها تعيش في عصرٍ آخر فدورها الرعائي مُهمشٌ عما تشهده السَّاحَةِ الوَطنِيَّةِ، وذلك مُنذُ أن غُيِّب المُفتي حَسن خالد، والشَّيخ صُبحي الصَّالح.
وبالعودَةِ إلى حيثيات انعَقادِ مُؤتَمرِ المُعارضَةِ البَحرينيَّة في إحدى جزر لبنان الأمنيَّة، رغم قرار وزير الداخلية الرَّفض لمثل هذه النشاطاتِ الاستِفزازيَّة، والإعلانِ عن نيةِ القِيامِ بنَشاطاتٍ أُخرى مُستقبلا، نرى ذاك الإصرارَ أكثر من مجرد رسالة، بل يعبر عن توجُّه استراتيجي يهدف الى كسر هَيبةِِ الدَّولةِ، ورُبما إيذانا ببدء عَمليَّةِِ تحلُّلِ الكِيان اللبناني ككُل، او تغيير مَعالِمِه.
إن الإصرارَ على هذا القَرار، الذي يَندرجُ ضِمنَ توجُّهاتِ قَطعِ رَوابِطِ لبنان العَربيَّة، يرى البَعضُ فيها مُؤشِّراً لإحكامِ قبضَةِ الحزب على لبنان الدولة.
ما هي ردَّةُ فِعلٍ دولةُ الرَّئيس ميقاتي على هذا القرار، وكيف سَيكونُ موقِفُهُ منه؟ يبدو أنه لن يكون إصرارا على التَّنفيذ ولا تلميحاً باستِقالةِ، ولكن ماذا لو استَمرَّ التَجاوزُ، الإمعانُ في مخالفةِ توجُّهاتِ الحُكومَةِ القاضيَةِ بالنأي بالنفسِ وإغفالُ قراراتها، أم كعادَتِهِ سيسعى بأسلوبه الدبلوماسي إلى استيعابِ الأمرِ ولو على حِسابِه؟ وماذا عن مواقِفِ القِوى السِّياسِيَّةِ الأُخرى هل سَتبقى مُتفرِّجةً أم ستكتفي بمجرد إدانة؟ هذا ما سنتركُ الاجابةُ عليه للمُقبلِ من الأيام، والتي يبدو أنها ستكونُ حبلى بمُستجدَّات غير مُتوقَّعة.
اقولُ هذا، مًتسائلا عمَّا إذا كانت توجُّساتُ اللبنانيين نتاج ظاهرتين مَرضيَّتبن نفسيَّتين، عربفوبيا وفرسفوبيا!!!!
وأراني مُضطرٌ، بدافِعِ شَغفي بوَطني لبنان، واقتِناعا مني بأهميَّةِ الحِفاظِ على صيغةِ التَّعايُشِ التي قامَ ونَشأ عليها هذا البلدُ المِِسكين، كما حِرصاً مني على بيئةِ المُقاومَة، التي كنا نَحترمُ إنجازاتها ونجلُّ تَضحياتِها، أخلُصُ من حديثي بدعوةٍ مخلصةٍ للمَسؤولينَ دعوةٌ صادِقة، أحثُّهم فيها على ضَرورَةِ إعادَةِ التَّفكيرِ جدِّياً بخياراتِها، والعَملُ على لبننةِ توجُّهاتها، حفاظا عليها وصَونا للوَطن.