«الهيصة» اللبنانية المثارة حول «العودة الخليجية إلى لبنان»، لم تقابلها على الأرض حتى الآن إجراءات خليجية تجاه البلد توحي بأنّنا أمام لحظة انتقالية في العلاقات اللبنانية الخليجية. لم يتجاوز الأمر لقاءات يغلب عليها البروتوكول والمجاملات، وإعادة التأكيد على ثوابت الموقف السعودي وانتظاراته من لبنان.
طبعاً، أستعمل مفردتَيْ «العودة الخليجية» هنا تجاوزاً، بمثل ما يُستعمل الخطأ الشائع. لأنّنا لو دقّقنا في ما يُسمّى العودة فهي بالأساس عودة سعودية على صهوة مبادرة كويتية (خليجية). فقطر لم ينقطع وجودها في لبنان، حتى يشملها مصطلح العودة الخليجية، ولا شملت هذه العودة، حتى الآن، عودة السفير الإماراتي، حيث تصرّ الإمارات على أن لا مصالح استراتيجية لها في هذا البلد تستوجب «الاستثمار» في سفارة.
منذ البداية كانت لأبوظبي ملاحظات صامتة على المبادرة الكويتية، وبنودها، ولو من موقع المرحِّب بها بشكل عام، كالبند الذي يطالب بوقف الحملات الإعلامية. فالإمارات لا تتوقّف فعليّاً عند مضمون الحملات الإعلامية أو السياسية ضدّها أو ضدّ دول شقيقة حليفة لها، بمقدار ما يعنيها موقف الحكومة اللبنانية من القضايا التي تمسّ أمن الإمارات ودول الخليج، كما يعنيها الموقف السياسي اللبناني من القضايا الحيويّة لأبوظبي. فالمسألة ليست مطروحة على قاعدة التأدّب، بقدر ما هي موقف سياسي واقتصادي متكامل يأخذ بعين الاعتبار مصالح الإمارات وكيفيّة خدمتها وتجسيرها مع مصالح الآخرين، وهذا ممّا هو غير متوفّر الآن في لبنان لأسباب باتت بحكم البديهيّات.
إذاً ما نحن بإزائه هو عودة سعودية، هي الأصل في المشهد السياسي موضع الاهتمام، بالشراكة مع الكويت، صاحبة الموقف التاريخي تجاه لبنان الذي لطالما تميّز بالليونة والتماس الأعذار للشقيق المُتعب.
للعودة السعودية سببان لا ثالث لهما.
1- ربط النزاع تهيئةً لمرحلة قد تنتج حلولاً سياسية في المنطقة أو ترتيبات تستوجب جاهزية كلّ أصحاب المصلحة.
2- استجابة سعودية لمصلحة فرنسية في لبنان عبّر عنها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال زيارة المملكة وفي عدد من الاتصالات الفرنسية السعودية، تتطلّب انخراطاً سعودياً ولو شكليّاً، يواكب الانخراط الفرنسي الذي تراه الإليزيه واحداً من مرتكزات السياسة الخارجية الفرنسية في الشرق الأوسط.
والحال لا تتجاوز العودة السعودية ربط النزاع في لبنان، من دون أن تكون مقدّمة لموجة انخراط سعودي اشتباكيّ مباشر كما كان الأمر إبّان ذروة النزاع السياسي بين معسكرَيْ 8 و14 آذار. ولعلّ حضور وزير ممثّل عن حركة أمل، وصاحب مواقف تتبنّى مجمل الخطاب العامّ لحزب الله، وشموله باللقاء الأول في السفارة السعودية إلى جانب شخصيّات أخرى من صلب 14 آذار سابقاً، دليل على أنّ المملكة تقارب الملفّ اللبناني من زاوية العلاقة بالدولة اللبنانية بكلّ مكوّناتها، ما عدا ما هو حزب الله صرف، وتعلن أنّ انتظاراتها هي انتظارات من الدولة بمؤسّساتها الدستورية لا من فريق سياسي داخلي أيّاً يكن قربه من ثوابت المملكة.
كما أنّ الالتزام السعودي تجاه لبنان، ينحصر حتى الآن بالبعد الإنساني، الذي آليّته الصندوق الفرنسي السعودي، ولا يتجاوز ذلك إلى مستوى الاستثمار السياسي والاستراتيجي كالاستثمار السعودي والإماراتي في سلامة الاقتصاد المصري، ولا سيّما بعد التحدّيات التي فرضها الغزو الروسي لأوكرانيا.
فقد أعلنت المملكة العربية السعودية منذ أيّام إيداع 5 مليارات دولار لدى البنك المركزي المصري، في لحظة استراتيجيّة تعاني فيها القاهرة من أزمة اقتصادية طارئة دفعت البنك المركزي إلى خفض قيمة الجنيه المصري بنسبة تقترب من 17%، والإعلان عن بدء مفاوضات مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض جديد. وتعدّ مصر أكبر مستورد للقمح في العالم، وبالتالي الأكثر تأثّراً باضطراب الاستيراد من روسيا وأوكرانيا أو من ارتفاع الأسعار. كما يشكّل السيّاح الأوكرانيون والروس النسبة الكبرى من الذين يتردّدون على المنتجعات المصرية على البحر الأحمر، وهو ما يعني أنّ انخفاض أعدادهم سيؤدّي إلى تراجع عائدات مصر من العملات الصعبة، ومفاقمة الضغوط على الدولار في بلد تبلغ فاتورة الاستيراد فيه أكثر من ضعف عائدات الصادرات.
من جانبها وافقت شركة «إيه دي كيو» الحكومية الإماراتية (الصندوق السيادي الإماراتي) على الاستحواذ على حصص في شركات حكومية مدرجة بالبورصة المصرية. وسيستثمر الصندوق مليارَيْ دولار في شراء أسهم بخمس شركات، بما في ذلك حصّة قدرها 18% من البنك التجاري الدولي.
لا يبدو لبنان مرشّحاً لمثل هذه المقاربة التفصيلية الاستراتيجيّة، في أيّ مستقبل قريب. «الصدف والتقاطعات» التي عبّدت الطريق أمام العودة السعودية، لا تكفي لرفع مستوى العلاقات اللبنانية السعودية والخليجية أعلى ممّا هي عليه الآن. كأنّها عودة شبه اضطرارية مدفوعة بمصالح سعودية خارج لبنان، واستجابة لحاجات سعودية تتّصل بتمتين علاقات الرياض الدولية، كالعلاقة مع باريس، في لحظة اشتباك مع واشنطن، غير مرشّح للتهدئة في أيّ وقت قريب.
وكي لا يُساء فهم العودة، تتسلّح الرياض بالورقة الخليجية (الكويتية)، كقاعدة لبناء أيّ تفاهمات مستقبلية مع لبنان، وكإطار للحلّ الذي يعيد لبنان إلى موقعه العربي. إنّه ربط نزاع على قاعدة انتظار أن يحين وقت النقاش الحقيقي في البنود الأساسية في المبادرة والتي تتمحور بشكل رئيسي حول معالجة جذرية لسلاح حزب الله وفق منطوق القرارات الدولية ذات الصلة.
إلى أن يحين الوقت سيُملأ الفراغ بالكثير من القهوة والتمر، والهيصات اللبنانية.