الحديث عن التعاون الاقتصادي في ظل ما يجري اليوم على الاراضي العربية يبدو كأنه موضوع في علم الفضاء.
المؤشرات للتعاون الفعال كانت مفقودة في السابق، فالتجارة البينية لا تتجاوز ثمانية في المئة من حجم تجارة مجموع البلدان العربية. والتعاون لإنشاء سوق عربية مشتركة توقف عند حدود اتفاق فتح مجالات التجارة بين مصر والاردن وسوريا ولبنان. واليوم انتقال البضائع بين هذه البلدان شبه مستحيل، إلاّ بحراً مع مصر، لكن مصر كانت تعاني حكم “الاخوان” الذي أراد تحويل هويتها واقتصادها. فالزوار من اوروبا وغيرها لم يكونوا موضع ترحيب خلال ولاية مرسي، ومصر الدولة العربية الاساسية باتت تواجه اعمالاً ارهابية ولن تستعيد نشاطها الاقتصادي والسياحي وتسهل انتقال السفن عبر قناة السويس قبل انقضاء وقت ليس بقصير.
ومصر لن تنمو بمعدلات مجزية للدخل الفردي ما لم تستعد السيطرة على تزايد عدد السكان، الأمر الذي تبدى أوائل التسعينات.
قلب العالم العربي، جغرافياً وديموغرافياً، كان الى حد بعيد العراق وسوريا، فسكان البلدين يتجاوز عددهم الـ50 مليوناً ونسبة محصلي العلوم العالية في العراق، سواء في الفيزياء أو شؤون النفط، كانت مرتفعة، وسوريا لديها أفواج من الاطباء يعملون في الولايات المتحدة، وخبراء اقتصاديون وماليون ومصرفيون مميزون، لكن مجالات عمل هؤلاء صارت في سوريا في خبر كان.
سوريا والعراق بلدان مشلعان. المهجرون في سوريا داخل البلد وخارجه في الاردن وتركيا ولبنان صاروا 10 ملايين، وحلقة الدمار للبنية التحتية، والاسواق التجارية والمنازل، والمؤسسات، ومنشآت النفط والغاز وانتاج الكهرباء، تتجاوز تكاليف ترميمها وتجهيزها 200 مليار دولار، وهذه تقديرات منظمة “الاسكوا” لفريق يرأسه الدكتور الدردري الذي كان نائباً لرئيس وزراء سوريا مهمته دراسة وسائل تحرير الاسواق وتشجيع الاستثمار.
العراق البلد الاغنى من حيث موارد النفط، والبلد الذي عانى اعباء إيفاء الديون والاضرار للكويت نتيجة حرب صدام العبثية عام 1990، بات يفتقر الى الموارد المالية الخارجية، ويطلب مساعدة الولايات المتحدة على تجهيز قواته بالمعدات وتأمين التدريب لها، واراضيه بات 35-40 في المئة منها في قبضة تنظيم “الدولة الاسلامية” الذي اعلن اقامة الخلافة في العراق، وانخفض انتاج النفط في العراق بدل ان يتزايد بموجب البرامج السابقة الى أربعة ملايين برميل يومياً هذه السنة وثمانية ملايين برميل سنة 2016.
الرموز الدينية المعمارية دمرت، والمسيحيون طردوا من اراضيهم التي ترسخوا فيها منذ آلاف السنين، واستبيحت نساؤهم وتعرض العديد من رجالهم وشبابهم للتصفية.
تطورات الاحداث في سوريا والعراق دفعت الاكراد الى التمسك بفرص الاستقلال، سواء في الدفاع عن الارض أو الاستئثار بالقرار الاقتصادي، ولا شك في ان نيات استقلال الاكراد وانضمام اكراد سوريا والعراق في مسعى التوحد أمر سيؤدي الى تعاظم مشكلة، أراد النظام السوري تفاديها.
تعاون اكراد العراق مع اكراد سوريا لدحر القوى الاسلامية في كوباني كان المؤشر الاول لإمكان استيعاب قوى الظلامية والاستكبار وردعها.
يبقى ان سوريا والعراق في وضع لا يسمح لهما بتكامل اقتصادي فعال مع بقية الدول العربية، خصوصاً وان مصر، على رغم كل وعود المساعدة، لا تزال تجاهد في محاربة الارهاب من جهة، وتشجيع الاستثمار والموارد التي افترض تخصيصها لها، سواء لإنجاز مشروع القاهرة الجديدة، أو تطوير مصادر الغاز وشبكات توزيعها، أو مشاريع زيادة طاقتها الكهربائية، وكلها مشاريع يمكن انجازها شرط توافر تمويل مدى 10 سنين – طبعاً من دول الخليج العربي على مستوى ثمانية مليارات دولار سنوياً – ويبقى ان الدولة لن تستطيع كفاية حاجات المواطنين للغذاء والكساء والتعليم والصحة، ما لم تنفذ مشاريع توعية اجتماعية تشمل ضبط نسبة تزايد السكان.
وليبيا البلد العربي في شمال افريقيا الذي يتشكل من امتداد جغرافي واسع، ومتنوع المعطيات الطبيعية، صار بعد اطاحة حكم معمر القذافي، الديكتاتور الذي حكم البلاد والعباد واستأثر بالثروات النفطية والمالية الى حين مقتله بشكل مزر أواخر 2011، بلداً تائهاً بين محاربين لا تعرف هوياتهم، وممارسات بعضهم كانت وحشية وتمثلت في قتل وذبح عشرات المصريين الاقباط والاثيوبيين المسيحيين. وانخفض الانتاج النفطي للبلد من 1,8 مليون برميل يومياً الى 200 الف برميل وبات يحتاج الى المشتقات النفطية، لكن اوضاعه المالية سيئة وخصوصاً بعد تجميد 80 مليار دولار للدولة الليبية في انتظار قيام حكم مستقر.
الآمال تعلق على توجهات والتزامات دول الخليج النفطية ونعني بها حسب ترتيب الاهمية والقدرة، السعودية، الامارات، الكويت ومن ثم قطر التي تحولت عن مناكفة السعودية الى مناصرة “عاصفة الحزم”، وبدأت سياسة جديدة ربما بعيدة عن مناصرة “الاخوان”.
لو كان العراق لا يزال دولة واحدة مستقرة لكان مطلوباً منه ان يكون في الصفوف الامامية للمساعدة، لكن العراق يشكو من الاقتتال وتحديات “الدولة الاسلامية” وتهجير المسيحيين الذين بلغ عددهم ثلاثة ملايين، منهم من بقي في العراق، في حمى الاكراد، ومنهم من هاجر الى لبنان، وبلدان ابعد منه كأسوج.
الدول العربية الخليجية تحظى باحتياطات مالية ملحوظة، لكنها واجهت جميعاً نتائج انخفاض أسعار النفط بنسبة 50 في المئة واسعار الغاز بنسبة 25-30 في المئة، وان شاءت المحافظة على ارقام موازناتها فسوف تجبر على تآكل احتياطاتها. و”عاصفة الحزم” واجهت دول الخليج مع طموحات فارس، وان كان لها ان تستمر في هذه المواجهة التي اطلقتها بشجاعة السعودية، فسوف تحتاج الى تخصيص عشرات المليارات من الدولارات للاعمال العسكرية ومن بعد اعادة الاعمار. وما يجمع هذه الدول حالياً عامل سلبي، هو التخوف من نيات ايران، وما دام هذا التخوف متجذراً لن تستطيع دول الخليج الغنية كفاية حاجات الانماء في مصر، وربما اعادة الاعمار في سوريا، والعراق حيث الحاجات المالية والبشرية تبدو بالغة الارتفاع. لقد انفقت السعودية 80 مليار دولار على شراء الاسلحة عام 2014 والامارات 25 مليار دولار.
اذا كانت تكاليف اعادة اعمار سوريا في نهاية هذه السنة، على افتراض توقف القتال، 250 مليار دولار، وتكاليف تثبيت أوضاع العراق وتجهيز جيشه وتدريبه، وتعويض خسائر إعمارية وحضارية لا تقل عن 120 -150 مليار دولار، لن يكون من السهل توفير الاموال لهذه الاغراض كما الفنيين والعمال باعداد كافية.
اليوم تبدو صورة لبنان، الواقف على قدميه مترنحاً، قابلة للاستمرار واعادة التنشيط، وهذا توقع لا يبدو متناسباً مع وضع الجمود السياسي.
ربما كان يجوز السؤال: اذا انتصرت قوات “جبهة النصرة” وقوات “جيش الاسلام” في سوريا، هل يكون لهذه القوات توجه نحو لبنان رداً على مشاركة “حزب الله” في الحرب في سوريا الى جانب الرئيس الاسد؟
أظن انه ليس هنالك بلد عربي واحد في المشرق العربي حالياً لا يواجه مخاوف مصيرية، والامل الرئيسي والاساسي لنا جميعاً ألا تتهاوى حكومات الخليج التي تعاني انخفاض مداخيلها على صادراتها المفترض ان تبلغ 20 مليون برميل من النفط يومياً وما يعادل ثلاثة ملايين برميل من صادرات الغاز المسيل من قطر، وسلطنة عمان والامارات، أي ما يساوي 400 مليار دولار… وان ترتفع هذه المداخيل بنسبة 20 في المئة هذه السنة، ونحن نرجح ذلك استناداً الى دراسة اجريناها السنة المنصرمة وبينت ان انخفاض سعر النفط عن 60 دولاراً للبرميل يؤدي الى انخفاض انتاج النفط الصخري 1,5 مليون برميل يومياً، وقد شهدنا ارتفاعاً لاسعار النفط خلال اسبوعين من 50 دولاراً للبرميل الى 60 دولاراً للبرميل، ونقدر ان يستمر الارتفاع، خصوصاً ان شركات انتاج الغاز والنفط الصخري في الولايات المتحدة مدينة بـ240 مليار دولار، والسلطات الاميركية لا تريد مواجهة ازمة مصرفية كالتي عصفت بالبلاد عام 2008.