في أيلول الجاري، هناك حدثان يُعتبران من علامات المرحلة المقبلة في الشرق الأوسط: الأول هو التوقيع قبل يومين، في قمة العشرين في نيودلهي، على الممرّ الاقتصادي الطموح، الذي يربط آسيا بأوروبا عبر الشرق الأوسط، والثاني هو الاجتماع الوزاري العربي الأوروبي المُنتظر في 18 من الجاري، للبحث في إمكان إحياء المبادرة العربية للسلام، المعلنة في بيروت العام 2002.
ثمة تحوُّلات تعصف اليوم بالشرق الأوسط وترسم الخطوط العريضة لمستقبله ومصير كياناته السياسية وموارده الاقتصادية. وفي ظلّ هذه التحوُّلات، جاءت الإشارات التي أطلقها الوسيط الأميركي عاموس هوكشتاين، في زيارته الأخيرة للبنان، إذ ربط بين الفرصة المتاحة لاستخراج الغاز وإنجاز ترسيم الحدود البرّية مع إسرائيل.
حراك هوكشتاين في لبنان يندرج في سياق الحراك الأميركي المستجد على مستوى الشرق الأوسط، خصوصاً بعد توقيع المملكة العربية السعودية وإيران على اتفاق تفاهم في بكين وبرعايتها.
وتبدو إدارة الرئيس جو بايدن في وضعية الاستنفار، في محاولة منها لتدارك عجزها عن تحقيق أي خطوة ذات شأن في الشرق الأوسط، خصوصاً بسبب انهماكها بالحرب في أوكرانيا.
ومعروف أنّ لبايدن طروحاته السياسية ورؤيته في ما يتعلق بالشرق الأوسط وكياناته، منذ أن كان نائباً للرئيس باراك أوباما. فهو واكب في تلك الفترة قضيتين إقليميتين أساسيتين: أزمة العراق، ولاسيما ملف الأكراد، والصراع بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. وفي القضيتين، له رؤيته التي يتردّد أنّه اليوم في صدد تسويقها، والاستعجال لتسجيل إنجازات، قبل انتهاء ولايته في البيت الأبيض، بعد نحو 16 شهراً.
في العراق، يؤيّد بايدن إقامة نظام كونفدرالي مثلث الرؤوس، شيعي- سنّي- كردي. وفي هذا الشأن، هو صاحب مشروع تقدّم به إلى الكونغرس في العام 2006، عندما كان رئيساً للجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ، وتابعه خلال فترة نيابته لأوباما. ولذلك، تفاءل الأكراد باقتراب مشروعهم من التحقق مع وصول الرجل إلى البيت الأبيض.
وأما في الملف الفلسطيني، فيتبنّى بايدن فكرة قيام دولة فلسطينية، مع تقديم الضمانات لإسرائيل حول حدودها وأمنها ومواردها. ومن الواضح أنّ الشرق الأوسط يشهد اليوم غلياناً في اتجاه تحوّلات تعمل لها إدارة بايدن، وتظهر ملامحها في اليمن والعراق وسوريا ولبنان والمناطق الفلسطينية وبعض دول شمال إفريقيا.
التكتيك الذي تعتمده إدارة بايدن حالياً يقضي بتدعيم علاقات الولايات المتحدة بالقوى الإقليمية الفاعلة، بما فيها إيران، بهدف استيعابها جميعاً في محور واحد، وإبعاد المنطقة عن النفوذ الصيني الذي تَقدّم خطوات في السنوات الأخيرة.
لذلك، تحضّر واشنطن لمشاريع تفاهم تشمل إيران والسعودية وإسرائيل وتركيا. ولذلك، تخلّى بايدن عن مقاربته الصدامية للقيادة الجديدة في المملكة، وقرّر التفاهم معها. وفي الوقت نفسه، هو يعمل لتشجيعها على تطبيع علاقاتها مع إسرائيل.
يُستفاد من المعلومات المتداولة أنّ القيادة السعودية الشابة أبلغت الجانب الأميركي في وقت سابق، أنّ التطبيع بينها وبين إسرائيل لا يشبه التطبيع الذي تَحقّق مع دول أخرى. فللسعودية موقعها ورصيدها العربي والإسلامي الذي لا يمكن أن تفرّط به.
وتالياً، من المستحيل أن تُقدم المملكة على أي سلام مع إسرائيل إلّا إذا تمّ على أساس السلام العادل والشامل الذي دعت إليه قمة بيروت العربية في العام 2002، بمبادرتها المعروفة على أساس الأرض مقابل السلام، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية.
ولذلك، يولي المحلّلون أهمية خاصة للاجتماع المتوقّع عقده في الجامعة العربية، بعد أسبوع، والذي يضمّ وزراء عرباً وأوروبيين، بهدف دراسة مبادرة بيروت العربية للسلام للعام 2002، والنظر في إمكان تطويرها لتصبح صالحة للنقاش في المرحلة الراهنة، بموافقة الأطراف المعنيين جميعاً. وعلى الأرجح، هذا الاجتماع سيشكّل الحلقة الأولى في ورشة عمل ستنتهي إلى إقرار صيغة لتعويم مبادرة بيروت.
ويعتقد المحللون أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، على رغم تطرّفه، سيجد مصلحة في مدّ الجسور شرقاً مع العالم العربي، ولاسيما المملكة العربية السعودية بما ترمز إليه عربياً وإسلامياً. كما أنّ مصلحة إسرائيل تقضي بقطف ثمار الممر الاقتصادي الطموح الذي ينطلق من الهند إلى المملكة ويصل إلى إسرائيل فأوروبا. وفي الأساس، هذا الممر هو مطلب إسرائيلي قديم.
اليوم، يغلي الشرق الأوسط بتطورات سياسية وعسكرية واقتصادية، إذ يتفاوض الجميع مع الجميع ميدانياً، لتكريس المكاسب قبل إبرام الصفقات: الولايات المتحدة والسعودية وإيران وإسرائيل. وفي النتيجة، الأقوياء هم الذين سيتقاسمون الحصص ويرسمون معاً مستقبل الكيانات الضعيفة والغارقة في أزماتها بلا أفق. ولبنان واحد منها.
وفي أفضل الأحوال، سيطمح إلى الخروج من انهياره، فيما هو يمتلك مقومات تسمح له بأن يكون هو النقطة التي تربط الشرق منها بأوروبا، وليس إسرائيل، أو على الأقل أن يكون منافساً جدّياً لها.
وسيكون على لبنان أن ينتظر تبلور الصفقات الإقليمية والدولية ليتقرّر مصيره كدولة، بل ككيان ربما.