حواليّ العام 2011 ــــ 2012، كان الليبراليون ــــ الوهّابيون والإخونج، قد توصّلوا إلى هيمنة فكرية ــــ سياسية عجيبة، ملفقة وانتقائية وسطحية، حتى ليحار المرء في الإجابة على سؤال يطرح نفسه بنفسه: كيف يقبل مثقفون، كائناً ما كان انتماؤهم السياسي، بتلك الضفيرة من الأفكار الماسخة، والواضح أنها معدّة، مخبرياً، لدى غرف استخبارية. وهي:
ــــ تحييد إسرائيل ودول الخليج عن دائرة الثورات العربية؛ بل ومنح إحداها، قطر، المحكومة بنظام عائلي اقطاعي استبدادي، دور القيادة الفكرية والإعلامية والسياسية لانتفاضة الديموقراطية في العالم العربي؛
ــــ تلخيص الديموقراطية في الانتخابات و»شرعية الصناديق»، من دون الالتفات إلى المقومات الضرورية للدمقرطة السياسية، ومنها الديموقراطية الاجتماعية والحريات المدنية ــــ لا السياسية فقط ــــ والحق في التعددية الدينية والمذهبية والثقافية والفكرية الخ؛
ــــ تسويغ التعاون مع الاستعمار والإرهاب من أجل قيام «ديموقراطية الصناديق»، وكأنها الحل السحري الأكيد، مهما غلا ثمنه، لأزمة التنمية والتحديث في العالم العربي؛
ــــ تحويل «نزعة معاداة سوريا»، خصوصا لدى المثقفين الفلسطينيين واللبنانيين، إلى عقيدة سياسية، اختفى، مع تبلورها في كتابات ونقاشات جوقة ثقافية ــــ اعلامية، أي تقييم موضوعي للتركيب الاجتماعي السياسي المعقّد للدولة السورية، وانجازاتها الاقتصادية والدفاعية، وكينونتها التعددية في كل المجالات، ما عدا المجال السياسي.
واصلاح المجال السياسي السوري، كان، وما يزال، ضرورياً؛ بل وكان ممكناً، كما يلاحظ الفريق أول ليونيد إيفاشوف (في حديث لروسيا اليوم)، حين تحرر الرئيس بشار الأسد من ضغوط الحرس القديم، بفضل الموجة الشعبية العربية، وأصبح قادرا على إدارة اصلاحات سياسية متدرجة. لكن ذلك لم يكن هدف التحالف الرباعي (الولايات المتحدة وإسرائيل والخليج وتركيا)، وإنما كان الهدف تدمير سوريا.
يكشف إيفاشوف، خلاصة معطيات استخبارية وميدانية، تقول إنه في وقت مبكر من ربيع 2011، دعا فرع «السي آي إيه» في تركيا، إلى اجتماع حضره نائب الرئيس السوري السابق، عبدالحليم خدام، ومسؤولون منشقون آخرون، مع ممثلي أجهزة استخبارات أوروبية وإقليمية وعربية، وجرى الاتفاق على الشروع في «العملية النوعية» المصممة وفق ترتيبات الثورات الملوّنة المعروفة، (1) بما في ذلك الهجوم الإعلامي والنفسي المتصاعد، وتشكيل اللجان ــــ التنسيقيات، وتصميم مظاهرات محدودة العدد، وإنما عنيفة الشعارات، وبثها بصورة مكثّفة الخ. وقد لعبت فضائيتا «الجزيرة» و»العربية» وغيرهما دورا اعلامياً ــــ تنظيمياً مباشراً في تطور الأحداث، (2) استخدام قنّاصة أجانب متسللين لقتل مدنيين ورجال أمن معاً، بحيث يتم استفزاز كل مجموعة حيال الأخرى، ودفع الفريقين إلى الاصطدام والكراهية المتبادلة، (3) الشروع في التسليح وتهريب مسلحين وتشكيل مجموعات مقاتلة، ولاحقا تأسيس ما عُرف بـ «الجيش الحر». وهنا تشكلت الأرضية المناسبة لتسهيل ودعم نشاط التنظيمات التكفيرية الإرهابية، ومن ثم سيطرتها على المشهد كله.
كانت «الثورة السورية»، إذاً، عملية استخبارية مدروسة، لعبت فيها الهيمنة الفكرية الملفّقة لليبراليّة والإخونجية، دوراً محدداً لاكتساب التأييد الضبابي لعقول مغسولة، ولكنها تفككت، شيئاً فشيئاً، لتترك مكانها للظلامية الإرهابية الصريحة، المتحالفة مع الصهيونية.
لم يعد الدور السياسي والميداني لوكالة الاستخبارات الأميركية في سوريا، خافياً الآن، ولم يعد التنسيق الميداني بين العدو الصهيوني و»القاعدة «/ «النصرة» في جنوبي سوريا، يحتاج إلى براهين. وهو، في النهاية، تحالف سياسي بين الاحتلال والإرهاب التكفيري، كما هو التحالف العميق القائم بين الكيان الصهيوني والمملكة الوهّابية.
هكذا وضع التاريخ، بقسوته الصارمة، القوى المتنازعة في سوريا في خندقين، لا ثالث لهما؛ فإما في خندق الدولة الوطنية السورية، أو في الخندق الإسرائيلي. ولا توجد أي مساحة سياسية للتحرّك خارج هذه المعادلة.
ومن الواضح أن هذه المعادلة تُبهظ حساسيات مشروعة، اجتماعية ووطنية وثقافية واتنية، معارضة أو مستقلّة؛ ولكن الحقائق المادية هي التي تحكم، في الأخير، الميدان السياسي؛ لا مكان في الوسط بين الوطنية والخيانة. إنها لحظة الحقيقة التي استيقظت، بصورة عفوية، لدى جماهير السويداء، وأيقظت، معها، التراث القومي الكفاحي لجبل العرب، في مواجهة الخطة الصهيونية ــــ التكفيرية؛ غير أن مثقفين «يساريين» لا يزالون يروّجون لسقوط دمشق بأيدي إرهابيي النصرة، باعتباره الطريق نحو تحرير فلسطين!
تعرفون الأسماء، ولن أذكرها لأنها كثيرة جدا؛ لكن السؤال يتعلّق بمثقفي «الربيع العربي» عامة: أهؤلاء يساريون وقوميون تحوّلوا إلى ليبراليين حقاً، ثم توهّموا وتورّطوا… أم أننا بإزاء شبكة منظّمة جنّدتها الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية، منذ مطلع التسعينيات؟ سيقفز في أذهانكم الآن اسمٌ يذكركم بإيلي كوهين والموساد!