IMLebanon

لماذ لا يصحّ الكلام عن “سلام عربي-إيراني”؟

 

 

كتب الأستاذ نديم قطيش مقالا في “أساس ميديا” بعنوان “السّلام العربيّ-الإيرانيّ؟”، اعتبر فيه ان “لا سلام في المنطقة من دون سلام عربي إيراني تكون نتيجته نقل العلاقة مع إيران من كنف الميليشيات والأيديولوجية إلى كنف السياسة والاقتصاد والتنمية المشتركة”.

 

رأى قطيش ان “في المنطقة مشكلة سلام عربي إيراني لا مشكلة سلام عربي إسرائيلي”، سببها المشروع التوسعي الإيراني “من حزب الله في لبنان، إلى الحوثيين في اليمن، مروراً بأرخبيل الميليشيات المختلفة في العراق وسوريا… وصولاً إلى الاستحواذ على جانب من حركة حماس واستتباع تنظيم حركة الجهاد الإسلامي بكلّيّته، وإنتهاءً بان الخليج لم يسلم من محاولات التوسّع الإيراني، أكان في البحرين أو الكويت أو محاولات الاختراق العديدة في السعودية أو محاولة اختطاف مصر إبّان ما سمّي الربيع العربي”.

 

يفترض التمييز بين التوصيف لواقع الحال في المنطقة الذي قام به قطيش، وهو تشخيص دقيق للغاية لجهة الدور الإيراني المسيطر على أربع دول عربية، والمزعزع للاستقرار في المنطقة كلها، وبين ما خلص إليه بان “لا سلام في المنطقة من دون سلام عربي إيراني”، وهو غير صحيح إلا من باب التمنيات، وذلك للأسباب الآتية:

أولا، الكلام عن سلام عربي-إيراني يَفترض بديهيا وجود حرب او مواجهة بين العرب وإيران، وبما ان لا وجود لحرب بين العرب وإيران، فيعني ان الكلام عن سلام لا يصحّ، لأن لا سلام من دون حرب، ولا سلام من دون قطيعة ديبلوماسية ومواجهة سياسية وربط نزاع حقيقي.

ثانيا، لم يكن التركيز على مدى عقود على السلام العربي-الإسرائيلي وليد الصدفة او مسألة عابرة، إنما بفعل الحروب العربية-الإسرائيلية من جهة، واشتراط العرب قيام دولة فلسطينية كمعبر للسلام من جهة أخرى، وقمة بيروت العربية في العام 2002 أكدت بوضوح على معادلة الأرض مقابل السلام، وعُرفت بمبادرة بيروت للسلام التي تدعو إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل مقابل الانسحاب الاسرائيلي الكامل من الأراضي العربية التي احتلتها منذ حرب الخامس من حزيران من العام 1967، وقيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة عاصمتها القدس الشرقية، وقد حظيت المبادرة بإجماع عربي خلال القمة، وهذا عدا عن مؤتمر مدريد للسلام بين العرب وإسرائيل والذي انعقد في خريف العام 1991.

ثالثا، على رغم التطبيع بين أكثر من دولة عربية وإسرائيل في السنوات الأخيرة، وعلى رغم ان الخطر على استقرار الدول العربية لم تعد مصدره إسرائيل، إنما أصبحت إيران، وعلى رغم ان المملكة العربية السعودية كانت على وشك، قبل “طوفان الأقصى”، التطبيع، إلا انه لا يمكن الكلام بعد عن سلام عربي-إسرائيلي بسبب رفض تل أبيب لحل الدولتين، وربط عدة دول عربية التطبيع بالسلام الفلسطيني-الإسرائيلي.

 

رابعا، القصد من كل ما تقدّم أعلاه القول ان الكلام عن السلام العربي-الإسرائيلي مرتبط بالنزاع التاريخي القائم بمعزل عن تقدمه أحيانا وتراجعه أحيانا أخرى، وبالتالي لا يجوز الكلام عن سلام من دون حرب ونزاع وخلاف ومقاطعة ومؤتمرات لتسويات وحلول، فهل من مؤتمر عقد لبحث الدور الإيراني وعروض قدمّت لإيران من أجل استبدال دورها العسكري بدور سياسي-اقتصادي وإلا فإن القطيعة ستكون سيدة الموقف، ومعلوم ان إيران تخشى من المواجهة مع العالم السني وتحسب ألف حساب لهذا العامل؟

خامسا، هنا نأتي إلى بيت القصيد وهو ان الكلام عن سلام عربي-إيراني لا يصحّ في ظل غياب الحرب والصراع والقطيعة واقتراحات الحلول والتدويل والدعوة إلى مؤتمرات لمعالجة مسألة الدور الإيراني، علما ان المواجهة الفعلية اليوم هي بين العرب وإيران أكثر مما هي بين العرب وإسرائيل، لأن الأخيرة تمنع قيام دولة واحدة وهي الدولة الفلسطينية، بينما إيران تمنع قيام أربع دول عربية، وهي لبنان وسوريا والعراق واليمن، وتمنع قيام دولة فلسطينية بالتكافل والتضامن مع إسرائيل، وتهدِّد استقرار دول عربية أخرى.

سادسا، يمكن القول بضمير مرتاح ان المواجهة الفعلية الوحيدة مع أحد أقدم وأبرز أذرع إيران في المنطقة هي التي تخوضها القوى السيادية في لبنان ضد “حزب الله”، وإذا استثنينا هذه المواجهة، التي لم يتمكّن فيها الحزب منذ 19 سنة حتى اليوم، اي منذ خروج الجيش السوري في العام 2005، من حسمها لمصلحته، فإن وكلاء الحرس الثوري يتحكمون بالقرار العراقي، والمعارضة السورية بالكاد موجودة، والحوثي في اليمن يتصدّر المشهد السياسي، وبالتالي المواجهة الجدية الوحيدة هي القائمة في لبنان.

 

سابعا، معلوم ان السياسة الأميركية التي تساهلت مع طهران بعد أحداث 11 أيلول 2001 وفتحت لها أبواب المنطقة، أشعرت دول الخليج بانها متروكة أمام حالة من التمدُّد الإيراني التي استفادت أيضا من الاتفاق النووي لتعزِّر دورها التوسعي وصولا إلى الهجوم على منشآت أرامكو السعودية، وهذا مفهوم وتتحمّل واشنطن مسؤوليته، ولكن غير صحيح ان القوة تنحصر في الشقّ العسكري، والقوة المالية للدول الخليجية أقوى من اي قوة عسكرية، وصدور اي بيان مثلا عن الجامعة العربية او مجلس التعاون ملوحا بخطوات وإجراءات ما لم يتم وضع إيران عند حدها أكثر من كاف من أجل تدخُّل دولي سريع، او دعوة صريحة من الجامعة العربية إلى مؤتمر إقليمي برعاية دولية عنوانه الدور الإيراني، وإلخ، ولكن لا يوجد اي شيء من كل ذلك.

ثامنا، إن توسُّع الدور الإيراني هو مسؤولية أميركية بقدر ما هو عربية، إذ حتى لو غضّت واشنطن النظر عن الدور الإيراني كردّ فعل على أحداث 11 أيلول، او سعيا لإشعار العرب بان الخطر الفعلي على وجودهم مصدره إيران لا إسرائيل من أجل ان تكرّ سبحة التطبيع، فلا يوجد ما يبرِّر الموقف العربي المتساهل مع التمدُّد الإيراني وسيطرته على أربع دول عربية واستخدامه القضية الفلسطينية وتهديده للاستقرار في المنطقة، فهل يعقل ان ميليشيا متخلِّفة مثل الحوثي قادرة على إرباك العالم عن طريق قرصنتها في البحر الأحمر، فيما الدول العربية عاجزة عن تهديد دول العالم بالقطيعة في حال لم تلجم الدور الإيراني؟

تاسعا، لا أحد يتحدّث عن مواجهة عسكرية مع إيران وميليشياتها في المنطقة، لأن المواجهة السياسية بحد ذاتها أكثر من كافية، ويكفي ان تعلن الجامعة العربية مثلا مقاطعتها الشاملة لإيران ما لم تبدِّل في دورها المزعزع للاستقرار في المنطقة، وان تسحب ميليشياتها، وان تحوِّل نفوذها من أمني وعسكري إلى سياسي واقتصادي، واي إعلان من هذا القبيل يؤدي إلى توليد دينامية حلول، وان تضع الجامعة أيضا مسألة الدور الإيراني في طليعة أولوياتها، وان تبادر إلى الدعوة لمؤتمر دولي إقليمي حول السلام في الشرق الأوسط(…).

 

عاشرا، كلمة حقّ تقال بانه لو التزم المجتمع الدولي والعربي بتنفيذ اتفاق الطائف لكان لبنان اليوم ينعم باستقرار وازدهار، ولكن تقاعس عواصم القرار الغربية والعربية سمح لذراع إيران “حزب الله” بان تحافظ على سلاحها وتعزِّز دورها العسكري، هذا الحزب الذي تحوّل مع الوقت من مشكلة لبنانية حصرا إلى مشكلة عربية ودولية، وهذه المشكلة تتحمّل عواصم القرار مسؤوليتها بشكل كامل.

 

وتأسيسا على ما تقدّم، لا يصحّ الكلام عن سلام عربي-إيراني، لأن من يسعى او من يريد السلام يكون في وسط الصراع وقلبه، الأمر الذي لا ينطبق على الدول العربية على رغم ان الضرّر الإيراني على هذه الدول كبير جدا، ولكنها، ويا للأسف، منسحبة من المواجهة السياسية مع إيران.

 

وقد يقول قائل ان الدول العربية غير مضطرة على مواجهة سياسية مع إيران تنعكس على استقرارها في الوقت الذي تتولى فيه واشنطن وتل أبيب المهمة عنها، وهذا غير صحيح، لأنه يجب ان تكون المواجهة العربية مع طهران منفصلة عن المواجهة الإسرائيلية، حيث ان المسألة مبدئية وتتعلّق بفائض القوة الإيراني الذي يسرح ويمرح في المنطقة على حساب سيادة الدول العربية، وطالما الشيء بالشيء يذكر فالمواجهة الشرسة التي تخوضها القوى السيادية في لبنان ضد “حزب الله” لا علاقة لها بإسرائيل ولا أميركا ولا اي دولة في العالم، ولا بل واشنطن ساهمت مساهمة أساسية بنمو الحزب من خلال تغطيتها للاحتلال السوري، والحزب رسّم الحدود البحرية مع إسرائيل، والترسيم يعني الاعتراف بدولة إسرائيل خلافا لادعاءات رميها في البحر، ولولا “طوفان الأقصى” فإن رهان تل أبيب كان على “حماس” في منع دولة فلسطينية وعلى “حزب الله” في حماية حدودها على طريقة الرئيس حافظ الأسد في الجولان، وعلى رغم كل المعطيات الإقليمية والدولية التي تصبّ في مصلحة الممانعة لم تخضع القوى السيادية في لبنان ولم تسلِّم بالأمر الواقع ولم تستسلم، إنما واصلت مواجهتها ربطا بحقها البديهي بقيام دولة فعلية في لبنان، الأمر الذي لا تقوم به الدول العربية في التصدّي للدور الإيراني.

 

وفي مطلق الأحوال الأنظار مركزّة في هذه المرحلة على اليوم التالي لانتهاء الحرب وليس على الدول العربية، خصوصا بعدما لمست إسرائيل ان تهديد وجودها مصدره إيران، وانه لا يكفي إبعاد خطر “حماس” و”حزب الله”، إنما الخطر الفعلي الذي يجب التخلُّص منه او إبعاده أو تطويقه هو إيران، ولن يعرف العالم العربي ولبنان تحديدا الخلاص والأمان والاستقرار إلا مع سقوط الأمبراطورية الإيرانية او إعادة الدور الإيراني إلى داخل حدود إيران.