Site icon IMLebanon

العروبيون اللبنانيون والعلاقات مع سورية

احتفل لبنان قبل أسابيع بمرور سبعين عاماً على جلاء القوات الفرنسية عن أراضيه. وكان هذا الجلاء صعباً مثلما كان نيل الاستقلال التام عسيراً. لم يكن في حجم الصعوبات والعقبات التي اعترضت طريق انسحاب القوات الأجنبية من فيتنام أو الجزائر، ولكنها مع ذلك كانت صعوبات كافية لتأجيل مشروع استقلال لبنان وسورية، البلدين اللذين كانا يخوضان معاً معركة التحرر، إلى أجل غير مسمى. غير أن البلدين نجحا في الحصول على استقلالهما قبل غالبية بلدان العالم وإخراج القوات الأجنبية من أراضيهما.

وفيما يحتفل اللبنانيون بذكرى الجلاء والاستقلال باعتزاز، فإن البعض ينظر إلى هذه الذكرى نظرة شك وتشاؤم. من هؤلاء الباحث صقر أبو فخر الذي كتب مقالاً بعنوان «العروبيون وانقلاباتهم الفكرية» تضمّن قسطاً واسعاً من هذه النظرات. فهو عندما يتحدث عن الاستقلال اللبناني، يضع المصطلح بين مزدوجين لتأكيد أن استقلال لبنان باطل وغير حقيقي. فأين علة بطلانه؟ وكيف تعالج هذه العلة؟ تعود هذه العلة، في تقدير أبو فخر، إلى انفصال لبنان عن سورية. فبغياب هذه الوحدة انتفى الشرط الرئيسي والضمان الأول لاستقلال لبنان. لماذا ارتكب العروبيون اللبنانيون «العار السياسي» إذاً بقبولهم استمرار الكيان اللبناني بعد أن كانوا معارضين له؟

يحمل أبو فخر عائلة الصلح مسؤولية هذا التحول بعد أن كانت تعتنق فكرة الوحدة السورية، ولكنه يضع قسماً كبيراً من المسؤولية في ما أصاب الوحدة السورية على أعيان بيروت وعلى مسلمي الساحل الذين استبدلوا تلك الفكرة بـ «التعصب المذهبي المذموم». فأعيان بيروت تهربوا من الوحدة السورية خوفاً من احتكار تجار الشام لأسواقها، وكلامهم العالي عنها كان «مجرد استقواء على المسيحيين الذين أسس الكيان المسيحي من أجلهم»، ولقد «ظل هؤلاء الأعيان – كما يقول أبو فخر- يلوكون فكرة القومية، لا انتماء جدياً لها، بل طريقة في معارضة المارونية السياسية، لانتزاع المكاسب، فكانوا سوريين أحياناً، وعراقيين أحياناً أخرى، ثم تحولوا إلى ناصريين في عهد جمال عبدالناصر، والتجأوا إلى ياسر عرفات في عهد الثورة الفلسطينية…» يتسم مقال أبو صخر بالكثير من التبسيط والقليل من الدقة ولكنه جدير بالملاحظة لأنه يمثل وجهة نظر تبنتها أوساط أثرت سلباً على أوضاع لبنان، وكان من بينهم مناصرون للحكم الفرنسي. ففي سورية كان حسني الزعيم، الضابط المحترف الذي قاد الانقلاب العسكري ضد حكومة الاستقلال السورية، واحداً من الذين حملوا أفكاراً مشابهة للمقال. كان يكنّ ضغينة للبنان ولأعيان بيروت، وكان مع ضم لبنان إلى سورية بالقوة. باستثناء تطابق الأفكار ليس هناك ما يجمع أبو صخر إلى حسني الزعيم. ولكن المهم هنا ان الترويج للأفكار والنظريات والمتحاملة على النهج العروبي تؤدي إلى خدمة معارضيه. ولقد كان باستطاعة أبو صخر تجنب هذا المطب لو انه لو عرض بسرعة المسوغات التي قدمها العروبيون اللبنانيون والسوريون ومناقشتها، ولو انه توخى شيئاً من الدقة في معالجة موضوعه. وهذه الدقة تتطلب تمييزاً واضحاً لم يأخذ به الكاتب عند الحديث عن الوحدة السورية، بين الوحدة السورية التي تتضمن اندماج الدولتين في كيان واحد، والوحدة السورية التي تتضمن الأقضية السورية والساحل السوري.

في كافة الحالات، اعتبر العروبيون والسوريون أن الدعوة إلى الوحدة السورية، سوف تثير ردود فعل حادة ذات طابع طائفي إذ إنها سوف تدفع بأكثرية كبرى من المسيحيين في لبنان إلى التمسك بالحماية الفرنسية، وسوف تسمح لفرنسا باستغلال هذا الوضع من أجل تحويل لبنان إلى قاعدة للحكم الفرنسي في شرق المتوسط، وإلى مرتكز عسكري وسياسي وثقافي للفرنسيين لكي يهددوا منه سورية المستقلة، او الدول العربية الأخرى اذا تعارضت مصالحها مع مصالح فرنسا في المشرق. لذلك نشط الفرنسيون في تنفيذ المشروع. والحقيقة أن فرنسا لم تتوقف عن تنفيذ هذا المشروع، ففي خضم الاستعداد للحرب العالمية الثانية، قام الفرنسيون بجهود كبرى من أجل تطوير المرافق الجوية والبحرية في لبنان في إطار استراتيجية عامة في المنطقة وفي اوروبا الجنوبية والشرقية.

وعندما نشبت الحرب العالمية الثانية ودخلت حركة «فرنسا الحرة» لبنان وسورية جنباً إلى جنب مع القوات البريطانية، وجه الجنرال جورج كاترو، الرجل الثاني في الحركة بعد الجنرال ديغول، رسالة إلى الوزير البريطاني للشرق الاوسط المقيم في القاهرة جاء فيها: «إن فرنسا جعلت لبنان قاعدة في سياستها تجاه سورية ولبنان… وهي في حاجة إلى أن تجد في دولة محلية (مثل لبنان) ذات تكوين ديموغرافي متنوع نظاماً مضاداً للدول الإسلامية والعربية المستقلة. إن النظام المضاد ضروري في ما يتعلق بمسألة الحرب بسبب الموقع الجغرافي والبحري للبنان. وهو ضروري في وقت السلم لأن لبنان بساحله المقابل لاوروبا هو رأس جسر يؤمن الوصول إلى المناطق الداخلية».

وتحول موضوع النظام الفرنسي المضاد في المشرق إلى شاغل مهم للقيادات الفرنسية، ولقد تبلور هذا النظام المفترض في مشاريع فرعية كثيرة. وفي إطار هذا النظام، وإبان المفاوضات التي مهدت عام 1945 لجلاء الفرنسيين عن المنطقة، أبلغ الجنرال بينيه قائد القوات الفرنسية الرئيس السوري شكري القوتلي والأمين العام لجامعة الدول العربية عبدالرحمن عزام ان بلاده مستعدة لتقديم بعض التنازلات المطلوبة ولكن لقاء إعطاء فرنسا قواعد بحرية في لبنان وقواعد جوية في سورية. لقد رفض الزعماء الاستقلاليون في البلدين هذه الطلبات وأصروا على انسحاب فرنسا من أراضي البلدين «من دون امتياز ولا مركز ممتاز».

لقد أزاح التفاهم السوري- اللبناني على قضية الساحل والأقضية الأربعة عقبة كبرى أمام استقلال البلدين. فخلق مناخات الثقة المتبادلة هو خطوة أولى ورئيسية أمام الوصول إلى المواثيق الوطنية ووضع حد للنزاعات وتأسيس حكومات وإدارات وحدة وطنية. كذلك أوجد التفاهم السوري-اللبناني حول مسألة الساحل والاقضية أجواء ملائمة للسير في تأسيس النظام الاقليمي العربي لكي يكون بديلاً عن نظام سايكس- بيكو.

كانت خطة الحلفاء الكبار الذين كانوا مسيطرين على الأوضاع في المنطقة العربية هي تأجيل كافة الأمور المتعلقة بالاستقلالات العربية وتشكيل نظام اقليمي إلى ما بعد انتهاء الحرب. أي كانت رغبة الكبار، خصوصاً البريطانيين ومعهم الفرنسيون، هي تهميش دور الدول المتوسطة والصغرى إلى أبعد حد في رسم معالم المنطقة العربية الجديدة. وهذا النهج تناقض مع الخوض في هذا الموضوع ابان الحرب لأن مقتضياتها كانت تفرض تقديم التنازلات إلى العرب وإلى حركاتهم الوطنية. ولكن الزعماء العروبيين، وبخاصة اللبنانيين منهم، تمسكوا بتحقيق المطلب الاستقلالي وبالعمل على تأسيس جامعة الدول العربية قبل انتهاء الحرب.

لم يتوقف العروبيون اللبنانيون عند تأسيس الجامعة، فقد ساهموا مع الزعماء العرب الآخرين في توقيع المعاهدة الثقافية العربية ومعاهدة الدفاع العربي المشترك والتعاون الاقتصادي. وقد وجد الزعماء السوريون واللبنانيون آنذاك في اطار النظام الاقليمي العربي أفضل إطار لتنظيم العلاقة بين بلديهم، وان الطريق الأفضل إلى تحقيق الأماني العروبية يمر عبر التدرج والآليات الديموقراطية والمؤسسات الشرعية. هذا الطريق تعطل نتيجة المتغيرات السياسية التي طرأت على المنطقة خلال الخمسينات، ولكن تعطله لا يقدم برهاناً على بطلانه.