«هبوني عيدًا يجعل العرب أمةً وسيروا بجثماني على دين بَرْهَمِ سلام على كفرٍ يوحِّد بيننا وأهلًا وسهلًا بعده بجهنمِ» (الشاعر القروي)
أن تستند أي فكرة أو تعبير إلى حقيقة مطلقة، فعلى هذه الحقيقة أن تكون صامدة منذ الأزل، وباقية إلى الأبد، كما أنّ عليها أن تكون كونية الطابع، أي ألا يختلف عليها اثنان عبر العالم العاقل. تعبير «قومية» هو أحد الأمثلة الفاقعة التي تحولت، لدى الكثير من البشر، إلى حقيقة مطلقة، فكانت سببًا لتحولات سياسية كبرى على مدى القرنين الماضيين من الزمن، كما أنّها كانت المسوغ المباشر لحروب ابتلعت عشرات ملايين البشر خلال القرن العشرين. كما أنّ هذا التعبير أخذ بالكثيرين من علماء الاجتماع والسياسة إلى عالم البحث عن مكنوناته، إضافة إلى بحوث علمية وتشريحية فاسدة، كانت أوروبا مصدرها، لتأكيد تفرّد القومية الآرية بصفات تاريخية وتشريحية تجعل منها مميّزة ومتفوّقة على الأخريات. في النصف الثاني من القرن العشرين، سقطت معظم تلك النظريات، بعد أن تأكّد أنّ أصول الأجناس البشرية كلها كان من إفريقيا، ومن ضمنها العرق الأبيض طبعًا.
كما أنّ تقدّم العلوم الجينية أكّد وجود «آدم وحواء» هما أصل انتشار نوع «البشري العاقل» منذ حوالى 70 ألف سنة، خرجا من إفريقيا، لتنتشر ذريتهما في كل بقاع الأرض. وهذه ليست مجرد نظرية عشوائية افتراضية، فقد تمّ تأييدها علميًا من خلال بحوث جادة عن تشارك البشر الحاليين في سمات جينية معينة. هذا يعني على الأقل سقوط العلوم الفاسدة التي أتت لتحاول إثبات النظريات العنصرية للقومية بناءً على البيولوجيا.
لكن تبقى قضية القومية مطروحة رغم ذلك، مع تقلّص تأثيرها الفكري منذ بدايات القرن الواحد والعشرين، بظل العولمة التكنولوجية. فما زالت العديد من المجتمعات تستخدم هذا التعبير، أو ما يرمز إليه بشكل غامض، للتحفيز السياسي والعسكري، ومن ضمنها مثلًا ما يحدث اليوم في الحرب الأوكرانية. وبالرغم من أنّ أصول هذه الشعوب المتحاربة، إما بالمباشر أم بالوكالة، كلها واحد تقريبًا، لكن الفكرة القومية بقيت حاجة ملحّة لتسويغ الموت والتضحية بدل الحديث الفج عن المصالح الاقتصادية، وهي تقريبًا الأساس لكل صراع منذ فجر البشرية.
أما بالنسبة للعرب، فإنّ فكرة القومية العربية نشأت بعيد تطور هذه الفكرة في أوروبا فيما أصبح لاحقًا إيطاليا وألمانيا. أواخر القرن التاسع وأوائل القرن العشرين تمثلت الحركة القومية العربية في جمعيات أدبية في دمشق وبيروت، ثم في حركة سياسية في المؤتمر العربي الأول الذي عُقد في باريس سنة 1912.
أهم الجمعيات ذات التوجه القومي حسب التسلسل التاريخي:
ـ الجمعية السورية: أسسها بطرس البستاني وناصيف اليازجي سنة 1847.
ـ الجمعية السورية في بيروت: أسسها سليم البستاني ومنيف خوري سنة 1868.
ـ جمعية حقوق الملّة العربية: ظهرت سنة 1881 وهي تهدف إلى وحدة المسلمين والنصارى.
ـ جمعية رابطة الوطن العربي: أسسها نجيب عازوري سنة 1904 وألّف كتاب «يقظة العرب».
ـ جمعية الوطن العربي: خير الله خير الله سنة 1905.
ـ الجمعية القحطانية: 1909 من مؤسسيها خليل حمادة المصري.
ـ جمعية (العربية الفتاة): أسسها في باريس طلاب عرب منهم محمد البعلبكي سنة 1911.
ـ الجمعيات الإصلاحية: 1912 في بيروت ودمشق وحلب وبغداد والبصرة والموصل من خليط من أعيان المسلمين والنصارى.
ظلّت الدعوة إلى القومية العربية محصورة في بداياتها في عدد محدود من المسلمين، ولم تصبح تيارًا شعبيًّا عامًّا إلّا مع جمال عبد الناصر.
يُعدّ ساطع الحصري 1880ـ 1968 أهم مفكريها وأشهر دعاتها، وله مؤلفات كثيرة تعدّ الأساس الذي تقوم عليه فكرة القومية العربية، ويأتي بعده ميشيل عفلق، فيما أصبح لاحقًا حزب البعث العربي الاشتراكي.
وكما هو منطقي، فقد وصفها الكثير من علماء الدين المسلمين بأنّها «دعوة جاهلية إلحادية، تهدف إلى محاربة الإسلام والتخلّص من أحكامه وتعاليمه، أحدثها الغربيون النصارى لمحاربة الإسلام، فاعتنقها كثير من العرب واغترّ بها كثير من الأغمار ومن قلّدهم من الجهّال، وفرح بذلك أرباب الإلحاد وخصوم الإسلام في كل مكان».
ويرى دعاة الفكر القومي أنّ أهم المقومات التي تقوم عليها القومية العربية هي: اللغة والدم والتاريخ والأرض والآلام والآمال المشتركة. يرى القوميون العرب أنّ الحدود بين أجزاء هذا الوطن ينبغي أن تزول وأن تكون للعرب دولة واحدة تقوم على أساس الفكر العلماني.
لم أقم بهذا السرد إلّا للتأكيد بأنّ طرح القومية كتعبير وفكرة، ما هو إلّا من نتاج أفكار البشر في سعيهم لتسويغ الاجتماع حول مقدّس مشترك يجمعهم ويخلق رابطًا شعائريًا بينهم، يتفوق على الرمزيات الأخرى التي أدّت إلى الخصام والتشاحن. وبالتالي، فإنّ فكرة القومية لا تستند إلى حقيقة مطلقة، بل إلى اجتهاد له حدوده في التاريخ وفي صلاحية الاستخدام. لكن، وفي ظل التمزّق الفكري الحاصل اليوم في عالمنا، وبالأخص في لبنان، حول فكرة الجامع الاجتماعي السياسي بين الناس، قد يكون إحياء فكرة القومية العربية على أسس مطورة مفيد لتشكيل رابط شعائري بديل عن فكرة الأمة المذهبية التي قضت على فكرة لبنان التعددي أو الفينيقي أو حتى العربي.
منذ بضعة أيام، شاركتُ في إحياء الذكرى الخامسة لوفاة أحد أعلام القومية العربية في لبنان هو الدكتور عبد المجيد الرافعي. أتى هذا الحفل في ظل نضوب خطير في مستوى الحضور السياسي الثقافي لمدينة طرابلس، ترجم نفسه في نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة. كالعادة، فقد تمّ صفصفة المقاعد الأمامية بشكل دائري لتلبية نرجسية كل الحضور، ومن ضمنهم أنا، مع العلم أنّ عدد المشاركين كان أكثر بقليل من المئة، ربعهم كانوا في الصف الأمامي الدائري الذي أُضيفت إليه مقاعد عديدة. الملفت هو أنّ الإنجازات الأهم للطبيب الإنساني الراحل كانت في العمل التطوعي الإنساني. أنا بمعرفتي الشخصية به، لم أكن متأثرًا بشكل خاص بطرحه الفكري السياسي، فقد كنت، كيساري أصولي، أعتبر الفكر القومي قاصرًا عن الفكر الاشتراكي العلمي الأممي، لكنني كنت بالتأكيد أعتبره مثلًا أعلى للطبيب، وهو ما افتقدناه في ظلّ تحوّل مهنة الحكيم إلى مجرد وسيلة لكسب العيش بدل منطق الحكمة.
لكن الكارثة كانت في طروحات الخطباء في المناسبة الذين تاهت خطاباتهم بين الطروحات البائدة والشعارات المستهلكة وخلط الآيات القرآنية مع التعاويذ القومية المفترض أن تكون علمانية، والأهم كان التمجيد بزعيم شهيد وقائد ملهم غائب وبكاء على الأطلال مزين بالاستعداد للاستشهاد في سبيل «القضية». كما أنّ الكلمات كانت تفصل بينها أبيات شعر كان يطلقها أحد الحضور متطوعًا بما يتناسب مع المناسبة، ليستدرج تصفيق الحضور، وهذه ظاهرة هزلية ورثناها منذ الستينات. كما أنّ أحد الخطباء لم يتورّع عن تخصيص معظم خطابه لهجاء منافسين له على قيادة حزبه الصغير الحجم، ونعتهم باللازمات المتكرّرة، كالخيانة والتخاذل والاستسلام وخدمة مشاريع تفتيت وحدة الأمة. باختصار، ومع أنني لم أكن أنتظر غير ما سمعت ورأيت، لكنني كنت أحلم بمفاجأة تشبه قول الشاعر القروي ونحن اليوم «أمم شتى» متناحرة تتنافس على الموت والدمار. لكنني عدت وترحّمت على خطب الستينات من القرن العشرين، يوم كان هذا الكلام يطربنا ويسكرنا لنذهب وننام على أحلام النصر والتحرير، فنصحوا ونحن غارقين في الذل والتعتير.