التقليل من أهميّة الحركة السياسيّة والديبلوماسيّة العربيّة تجاه دمشق هو تبسيط في القراءة والتحليل إزاء ما تشهده العاصمة السوريّة من انفتاح تدريجي بعد مقاطعة شبه شاملة منذ ما يزيد عن عشر سنوات. ولكن، في المقابل، التعويل على أنّ هذه الحركة، على أهميتها، كفيلة بتحقيق انفكاك مأمول بين دمشق وطهران هو تنبؤ استباقي في غير مكانه.
أن يحط في دمشق وزراء خارجيّة عرب مثل مصر والإمارات العربيّة المتحدة، بالتوازي مع تلميح من وزير الخارجيّة السعوديّة لضرورة اعتماد مقاربات جديدة في العلاقات مع سوريا، وقول الوفد البرلماني العربي من قلب العاصمة السوريّة إنّ العودة إلى الجامعة العربيّة طبيعيّة ويفترض أن تكون وشيكة؛ إنما تؤكد بأكملها حجم التحولات المرتقبة في هذا الملف.
بمعزل عن الحقيقة التاريخيّة الثابتة أنّ الشعوب المقهورة هي وحدها التي تدفع الأثمان الباهظة خصوصاً عندما تكون تحت سلطة أنظمة هدفها الأول، لا بل الأوحد، هو ديمومتها واستمراريتها بصرف النظر عن الأساليب التي تتوسلها للقيام بذلك؛ أغلب الظن أنّ الخطوات التطبيعيّة العربيّة الجارية على قدم وساق مع دمشق لن تحقق المأمول منها والمتمثّل تحديداً في سلخها عن طهران والسعي الحثيث لوقف نفوذها الذي تمدّد بشكل كبير خلال السنوات المنصرمة التي تلت الثورة السوريّة.
حبذا لو كانت تلك الخطوات قابلة للمعالجة في الأطر البينيّة العربيّة، أو في ما كان يُصطلح على تسميته في الماضي «البيت العربي» الذي تعرّض لاهتزازات كبيرة على مرّ العقود ولم يتمكن أهله من ترميمه وتأهيله ليكون بيتاً جامعاً تتم من خلاله بناء مقاربات مشتركة وموحدة للقضايا الدوليّة والصراعات الكبرى في العالم وفي المنطقة العربيّة.
من الصعب تصوّر إعادة تركيب العلاقات المتينة بين أركان محور الممانعة من دون قراءة التداعيات المحتملة لعمليّة إعادة خلط الأوراق ومدى تقبّل الجهات الأساسيّة في ذاك المحور لفكرة انفكاك دمشق عنه خصوصاً لما تشكله من حلقة وصل سياسيّة وجغرافيّة لا غنى عنها في سياق مشروع التمدّد الإقليمي الذي تخطط له وتخوضه منذ سنوات طويلة نحو بقع مختلفة في المنطقة العربيّة كما هو معلوم.
وبالتالي، يتحوّل السؤال عمّا إذا كانت دمشق ترغب فعلاً بالعودة إلى «الحضن العربي» إلى سؤال من نوع آخر يتصل بمدى قدرتها السياسيّة والعمليّة على القيام بذلك حتى لو أرادت سلوك هذا المسار، وسؤال آخر يليه مباشرة يتعلّق بالأثمان السياسيّة (وربما غير السياسيّة) التي قد تتكبّدها دمشق جرّاء اتخاذ هذا القرار الاستراتيجي الذي سيعرّض تحالفاً متيناً مع طهران بناه الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد بُعيد نجاح الثورة الإسلاميّة في إيران سنة 1979 والتزم به حتى رحيله سنة 2000.
لا شك أنّ ثمّة فوارق كبيرة بين الأب والإبن (في مجالات مغايرة عن الحفاظ على الطابع الاستبدادي للنظام الذي هو سمة مشتركة بينهما). من أبرز تلك الفوارق أنّ الأسد الأب عرف أن يلعب لعبة التوازن الندي مع طهران، فتحالف معها ضد غريمه التاريخي الرئيس صدام حسين في العراق، ولم يسمح للنفوذ الإيراني بالتغلغل إلى قلب سوريا.
أما ما حصل مع الإبن، فهو العكس تماماً! بغية الحفاظ على النظام، سمح باستباحة سوريا من قبل الأطراف الإقليميّة والدوليّة. طار الوطن لكن بقي النظام!
ويبقى السؤال الأخير يتصل بموقف موسكو التي «تسهّل» الغارات الإسرائيليّة على مواقع تابعة لحلفائها في سوريا من دون أن «يرف لها جفن». من هنا، تبدو الخطوة البديهيّة باتجاه موسكو هي التي يفترض أن تسبق «التطبيع» العربي مع دمشق، وعندئذ، يُبنى على الشيء مقتضاه!