تشكلت مجموعة صغيرة من متخصصين في الشأن العربي درسوه أكاديمياً ومارسوه سياسياً ومهنياً. عادوا ليقرروا الاستفادة من مساحة وقت فراغ ومن مسافة ابتعاد معقولة عن تفاصيل هذا الشأن العربي لينقبوا في هدوء عن فرص يمكن التقاطها ثم استثمارها لتحسين الوضع الجماعي للعرب. انطلقوا بتوافق عام من خلاصة جهود عديدة، وبعضها جاد، حاولت إصلاح مؤسسات العمل العربي المشترك. كان الظن السائد في حين معينة وربما في معظم الأحيان يميل إلى الاعتقاد بأن النقص أو العجز الذي شاب مسيرة مؤسسات العمل العربي المشترك، خصوصاً جامعة الدول العربية باعتبارها المؤسسة الأم، مسؤول عن الحال المؤسفة التي آلت إليها الأمة العربية في أرجائها كافة. ويستطرد المنطق وراء هذا الظن ليدعو أصحابه والمؤمنين به إلى تركيز جهودهم على إصلاح المؤسسات، فلعل مؤسسات أدق تنظيماً وأحدث تطوراً تكون أقدر على نقل نشاطات العمل العربي المشترك وكثير من نشاطات العمل غير المشترك من مستواها الهابط إلى مستوى أفضل، يتبع ذلك ميكانيكياً انتقال الأمة من حال إلى حال.
تتدخل تيارات فكرية أخرى لتقلل من أهمية وجدوى المجهود الذي ننوي أن نبذله، وبذله أسبقون، في محاولات إصلاح المؤسسات الجماعية العربية. لا فائدة! سمعناها تتردد في ردود منفعلة أو ساخرة أو مشفقة. قالها أحد الرجال المحترمين في دوائر تدريس العلوم الاجتماعية، قال اتركوا المؤسسات وابحثوا في أمر من فكر فيها وووجه بتأسيسها. ابحثوا في أمر من أدارها وكيف أدارها. ابحثوا في أمر من فقد الثقة فيها، أو من غلبه اليأس من أدائها، أو من حبس ماله عنها، أو من تعمد تجاهلها ودعا إلى إهمالها والعمل من مواقع بعيدة منها. قال إنتم مثلي تعرفون أن بشراً يقفون وراء هذه المؤسسات، بنهضتهم وإرادتهم تنهض المؤسسات وبتخلفهم أو بأنانياتهم تتخلف المؤسسات أو تفسد وتجف قبل أن تسقط متطايرة كأوراق الخريف.
أثيرت في وجوهنا منذ اليوم الأول من أيام البحث قضايا عن أسباب تخلف أداء العمل العربي المشترك، وتساؤلات عن بدائل ممكنة في حال توصلنا إلى أن بقاء المؤسسات على ما هي عليه يهدد أمن وسلامة الدول الأعضاء في المنظومة العربية، ويحرض دولاً أخرى من خارج المنظومة على استلاب حقوق ليست لها واحتلال أراضٍ لم تكن يوماً من ممتلكاتها، وتتحكم في بشر يرفضون رعايتها ويقاومون هيمنتها. أثيرت كما في كل مرة قضية حال الأمة. هل الأمة في حال مؤسفة كحال مؤسساتها المشتركة؟ كثيرون صاغوا السؤال صياغات مختلفة ولكن ظل الغرض وراء السؤال في معظم الأحوال واحداً. الأمة كغيرها من الأمم بخير لو توفرت لها الطبقة السياسية المناسبة للعصر والمرحلة الحضارية وطبيعة النظام الدولي الناشئ أو القائم. دعونا نتوقف هنا قليلاً لنسأل، وربما أتي سؤالنا متأخراً سبعين عاماً، هل كانت الطبقة السياسية التي وضعت أو اشتركت في وضع أساس المنظومة الإقليمية التي أطلقوا عليها جامعة الدول العربية، هل كانت، من حيث الخبرة والعلم والطموح والوعي بحال الأمة، على مستوى يتناسب ومستوى الطبقة السياسية في الدول العظمى الخارجة لتوها من حرب عالمية، والمستعدة بأكفأ العقول لإقامة تنظيم دولي على أساس أفكار وتجارب هي في الحقيقة من صلب وجوهر تجارب أفرزتها ثقافة الغرب. الممثلون والخبراء العرب الذين استجابوا، بعضهم استجاب بعد تردد واضح وتشكيك خطير أو مقاومة صريحة، للدعوة إلى إقامة منظمة إقليمية عربية، هل كانوا حقاً مقتنعين بأفكار وأهمية التنظيم الإقليمي ومستعدين للتضحية بجزء من سيادة هي في الأصل وواقع الحال ناقصة من أجل غرس بذور مشروع جماعي الطابع والعائد؟
ثم نسأل سؤالاً مشروعاً دون أدنى مشاعر بالحرج. هل كانت الأمة، في أي مرحلة من مراحل بناء، ولا أقول نمو وتطور، التنظيم العربي الإقليمي موحدة حول عدد مناسب من المعايير الدالة على مستويات التشابه أو الوحدة في التعليم والوعي المدني والثقافة العامة، وتقدير مدى التهديد الأمني واحتمالات العدوان الخارجي وقدرة الطبقات السياسية على توفير الحماية لدول غالبيتها ناشئ، وشعوب أغلبها لم يكتمل نمو وعيه الوطني؟ الإجابة: لا، لم تكن الأمة موحدة وفي الأغـــــلب كانت وحــــداتها غير متشابهة وبالتأكيد غير قادرة على حماية حدودها وأراضيها اعتماداً على قواها الذاتية منفردة، ولا نقول مجتمعة، فالقوة الجماعية العربية لم تجتمع في أي يوم ولأي مناسبة أو مواجهة أي خطر على امتداد السبعين عاماً أو ما يزيد، هي عمر الجامعة العربية.
يمكن الاعتراف بأن التاريخ السياسي لهذه الأمة يثبت لنا عدم توافر اهتمام حقيقي لدى مدرسة فكرية أو أخرى في العالم العربي منشغلة بالتكامل القومي قبل نشأة الجامعة ومؤسساتها. وجدت في شكل عام وفي صياغات أيديولوجية دعوات إلى الوحدة العربية. وجدت أيضاً مفكرين تجاوزوا عن حقائق ومحبطات عديدة خلال حملاتهم للتبشير بأمل جديد. إلا أن الأكاديمية العربية في مجملها، إن صح التعبير، لم تهتم بالقدر اللازم من الفكر التكاملي العالمي إلا بعد مرحلة تولى فيها الحكم في مصر وسورية نخبة حاكمة تعتنق فكر الوحدة السياسية، ولم تحدث انطلاقة كبرى نحو التنفيذ الفعلي لمشاريع تكامل اقتصادي واجتماعي إلا بعد أن تحقق فائضاً نقدياً كبيراً في عدد من الدول العربية النفطية في أعقاب حرب تشرين الأول (أكتوبر) عام 1973. بمعنى آخر لم يهتم المثقفون عموماً والأكاديميون خصوصاً بتطوير فكر تقدمي وعربي المحتوى والاجتهاد، إلا عندما وجدت طبقة سياسية في عدد محدود من الدول العربية المؤثرة والنافذة، استطاعت أن تحشد ضغوطاً شعبية قومية وفي ظل وفرة مالية سمحت بتخصيص موارد عربية لتنفيذ مشاريع بعينها. أكثر هذه المشاريع انفرط أو تغيرت ملامحه التكاملية فور رحيل القيادة التي اعتنقت فكر الوحدة أو تبنته.
من القضايا التي تخيم بظلال كثيفة فوق عمليات البحث الأكاديمي في حال الأمة العربية، وفي مؤسسات العمل العربي المشترك قضية الخوف بل الفزع العام في الإقليم من احتمال أن يتكرر في دول عربية ما وقع لدول مثل العراق وسورية والصومال وليبيا واليمن خلال العقد الأخير. لا نتصور، أنا وكثيرون غيري ممن تحدثوا مع مسؤولين عرب في الآونة الأخيرة، أن تقوم قائمة لمشروع تكاملي عربي جديد في ظل هذا الخوف أو الفزع. الخوف أو الفزع كل منهما قادر على إثارة حملات لجلد الذات، ولكنه غير قادر بطبيعة الحال على تحقيق خطوة في حلم انتقال الأمة إلى مرحلة جديدة مختلفة. هذه الحملات الناشبة الآن وبَضراوة غير مألوفة ما كانت لتستمر لو سمح لقطاعات شعبية وشبابية بأن تحتفظ علناً بطاقة الأمل التي ولدتها ثورات الربيع العربي. نذكر ولا شك كيف انقضت كل القوى المتضررة من ثورة تطالب بعدالة اجتماعية وكرامة واحترام الحقوق والحريات على عناصر الثورة لتقصف آخر رغبة في إصلاح حال العرب كأمة.
كان مثيراً لاهتمام الباحثين الذين حاولوا فهم أبعاد التغير في سلوكيات القائمين على إدارة مؤسسات العمل العربي المشترك في ذلك الحين. حدث، كما جاء في شهادة أحدهم، شلل في عمل الأجهزة المنوط بها دراسة مشاريع الإصلاح المعروضة عليها، وكما شهد باحث آخر بأن الجامعة بدت له كشيخ عجوز لا يقوى على المشي ولا يجد بين أبنائه وأحفاده من يساعده ليقف من جديد وإن لا ليفعل شيئاً ذا قيمة… سمعت شخصياً مسؤولاً كبيراً في الجامعة يقول لعلها نهاية الجامعة. النهاية التي عملنا منذ سنوات كثيرة وبذلنا كل جهد ممكن ومخلص لنؤجل وقوعها.
سبقنا باحثون تخصصوا في دراسة العلاقات الخارجية للعرب ومن قبلهم العثمانيون. هؤلاء أسبغت عليهم الطبيعة من حولهم وفي داخلهم ثروة بشرية من جماعات إثنية ودينية عاشت في المنطقة لقرون عديدة ويندر وجود مثيل لها. قرر هؤلاء الباحثون أن ميل الحكومات العربية إلى الاستعانة بالأجنبي لأتفه الأسباب وأعظمها لا يعادله ميل حكومات أمم أخرى تعيش خارج الشرق الأوسط. شعوب أفريقيا لا تميل بطبيعتها للاستعانة بجيوش الأجانب لتحل لها مشكلاتها مع جيرانها وتسوي لها نزاعاتها مع الدول الأفريقية المتاخمة أو البعيدة. فرنسا لم ترحل بعد عن مستعمراتها الأفريقية حتى الآن وتواصل التدخل في شؤونها بما يخدم مصالحها الاقتصادية ومكانتها في المجتمع الدولي، بهذا المعنى لا نصف الوجود الفرنسي في دول الساحل بأنه استجابة لاستغاثات أفريقية، وإنما بأنه استمرار لأداء الواجب الكولونيالي وحماية مصالح فرنسا. لم نعرف عن أميركا اللاتينية أو جنوب آسيا هذا الشوق الدائم الذي لا يبرد للتدخل الخارجي. أما الدعوات المتكررة من جانب دول الشرق الأوسط للدول الأجنبية لتتدخل فقد صار سلوكاً عادياً في ممارسة السياسة الخارجية، واعتبره كثيرون من قبيل الطبائع المحلية لأهل البلاد الأصليين. بالغوا وسجلوا أن لا دولة في المنطقة العربية لم تستدع شكلاً أو آخر من أشكال الدعم العسكري والأمني الخارجي منذ حازت على استقلالها. لاحظ أيضاً في هذا السياق أن لا دولة عظمى، غربية أو غير غربية، شجعت أو تشجع الدول العربية على تشكيل قوة عربية مستقلة لحماية الأمن القومي العربي. ألم نلاحظ غاضبين أن العرب لم يتفقوا حتى الآن على تعريف موحد للإرهاب وتعريف محدد لخطره على الأمن القومي العربي. أغلب الظن أنهم لو اتفقوا لانحازوا لفكرة إنشاء قوة عربية موحدة لوقف هذا الخطر. أغلب الظن أيضاً أنهم لن يتفقوا على أسباب تخلف التكامل العربي وإلا انحازوا لفكرة تطوير وظائف الجامعة العربية فيصير لديهم مؤسسة تقضم جزءاً من سيادة هذه الدول.
أليس غريباً أنه على رغم الظروف العصيبة وربما المصيرية التي تمر فيها غالبية الدول العربية، لم تقترح دولة عربية واحدة أن الوقت حان لنفكر معاً إن كنا نريد العيش المشترك في ظل نظام عربي الهوية، أم نظام متعدد الهويات والعرب فيه كيانات أو شظايا متفرقة؟!