منذ اندلاع الثورة السورية، يشهد العالم أزمة نزوح ولجوء سوريين بشكلٍ كبير. أطفال، نساء، عائلات وحتى رجال يهربون من الموت في بلادهم ليلقوا حتفهم على أراضي الآخرين فيُقتلون مرات عدّة من الإهانة والذلّ والخوف قبل الاستسلام الأخير الأبدي.
تفاقمت أزمة اللاجئين السوريين أخيراً بعد وصولها إلى أبواب «القارة العجوز»، على رغم أنّ عدد الواصلين لا يوازي العدد الهائل من ملايين اللاجئين في لبنان والأردن وتركيا. فـ»الإنسانية» نسبية بالنسبة للدول الغربية. وطالما الأزمة بعيدة ومحصورة فلا مشكلة، عندها يرتفع منسوب «ادرينالين» الانسانية عبر التنديد بالمتقاتلين المختلفين ومن خلال الخطابات الرنّانة التي ما عادت قابلة للتصديق.
هروب بعد تعب
تعب السوريون من وضعهم داخل سوريا أو في «المخيمات» في الدول المجاورة، وتمرّدوا على حالهم «الجامدة» لسنوات، باحثين عن عالمٍ يخلو من الذعر اليومي، من أصوات القنابل والمدافع والطيّارات الحربية، من استجداء المساعدات، من الفقر والجوع، ومن مستقبل سوداوي لا يَعِد إلّا بموتٍ محتّم أو بحياة ذليلة أسوأ من الموت.
قرّروا الهروب إلى عالمٍ آخر، هربوا في الحلم أولاً فخطّطوا للوصول إلى أوروبا حيث يمكنهم العمل، تعليم أولادهم والسكن في منزل دافئ آمن وليس في «خيمة» تحترق من حرارة الشمس صيفاً ومن «جمر فحم» التدفئة شتاءً.
حلموا بأن يتنزّهوا ويمشوا على الطريق وعلى شاطئ البحر دون تعرّضهم للشتم والتمييز العنصري. رُسمت ابتسامة على وجوههم المنهكة الحزينة البائسة وهم يتخيّلون أولادهم محامين أو مهندسين أو أطباء، معلّمين أو مدراء أو فنّانين، أو حتى موظّفين عاديين، أيّ شيء، أيّ عمل ولكن لا «ماسحي أحذية» ولا «بائعي ورود» أو «شحاذين».
طفل الشاطئ
لكن أين الواقع من الحلم؟ أين حقيقة الدول وصورتها الصحيحة من الصورة المثالية البرّاقة التي تظهرها عن نفسها؟
الجواب على حلم السوريين كان استمتعوا بـ«أحلامكم» لا نريد أن تدنّسوا أرضنا، نرفض استقبالكم، خذوا المال ولكن ابقوا بعيدين، أنتم برابرة قتلة متطرّفين نخاف منكم ونتوجّس من وجودكم بيننا.
هذا الجواب تغيّر وتبدّل جذرياّ عند البعض بعد حوادث متتالية حرّكت مشاعر الغربيين وأعادت إحياء مفاهيمهم الإنسانية، وأبرزها صورة الطفل «إيلان كردي» الذي رمته الأمواج على أحد شواطئ تركيا، التي هزّت العالم وأصبحت مادة لأيّ عملٍ تعبيري فنّي، إن عبر الرسم والشعر أو غيرها.
وكأنّ هذا الطفل الصغير بملابسه الكاملة الذي يظهر نائماً مرتاحاً فرحاً ، كأنه كان رسالة واضحة مباشرة للـ»انسان» بالمطلق. رسالة تقول أوقفوا موت السوريين غرقاً، إسمعوهم إنهم يصرخون طالبين النجدة فأين أنتم؟ مدوا أياديكم مدوا أياديكم! فإن لم تلتقِ الأيادي لا تكتمل الانسانية.
عنصرية متمدّنة
بعد هذه الحادثة الأبرز من حوادث كثيرة مشابهة قرّر بعض الدول الأوروبية استقبالَ أعداد محددة من اللاجئين السوريين، إلّا أنّ هذا القرار لم يستطع نزع شعور الكراهية واللامبالاة من قلوب بعض الأفراد والمواطنين «الغربيين».
فأكثر ما تداولته الوسائل الاعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي هو خبر عن إحدى الصحافيات في المجر التي قامت بعرقلة مسار رجل سوري يحمل ولده كي تقبض عليه الشرطة خلال تغطيتها لمحاولة السوريين الهروب والوصول إلى ألمانيا، لكنّ عدداً كبيراً من الصحافيين والمصوّرين تأثر بهذه المعاناة وساعد اللاجئين الواصلين بثياب ممزَقة فارغي الأيدي والنظرات، الذين اجتازوا البحار بنجاح ووصلوا إلى شاطئ «المستقبل» المرتجى إلّا أنهم لم يصلوا إلى شاطئ الأمان.
أشخاص أم لحوم؟
للموت أشكالٌ تماماً كما للهروب و»التهريب» أشكال، فالطرق مختلفة لكنّ الموت واحد. قتلاً في وطنهم أو غرقاً خلال الهروب على قوارب الموت أو حتى براً، المصير واحد. خبرٌ أكد أنّ «التاريخ يعيد نفسه» وأنّ شيطان القتل هو نفسه متربّص بالعرب يتنقّل بين دولهم قاطفاً منهم الآلاف بطرقٍ واحدة وأساليب واحدة متكرّرة ومستمرة إلى ما لا نهاية ولا تَوَقّف ولا اكتفاء.
«العثور على عشرات اللاجئين السوريين الذين ماتوا اختناقاً في شاحنة نمساوية لنقل اللحوم المشوية»، خبرٌ فظيعٌ أليم، ويكفي تخيّل هذه المشهدية لتضيق أنفسنا. يجعلك هذا الخبر تفكر أيّ لعنةٍ هذه تلاحق العرب ولماذا؟ لماذا؟ في السياسة أجوبة عدة وكثيرة لكنّ في العمق الانساني البشري تحسّراً ورفضاً وسخطاً… لماذا؟
رواية تتكرّر
موت سوريين هاربين إلى بلادٍ أخرى و»مُهَرَّبين» داخل شاحنة مقفلة مشهدٌ مطابق لرواية غسان كنفاني الأولى. المشهد نفسه بأبطالٍ مختلفين جمعتهم المعاناة الواحدة وطريقة الموت ذاتها. فرّقتهم وفرّقت شعوبهم السياسة في دولهم ولكنهم توحّدوا في العذاب والاحتضار ولو بأزمنة مختلفة.
«رجال في الشمس» هي الرواية الأولى للكاتب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني، والتي تصف تأثيرات نكبة فلسطين سنة 1948 على الشعب الفلسطيني وتُقدِّم الفلسطيني في صيغة اللاجئ.
هذه الرواية هي نموذج من حالات كثيرة لموت اللاجئين الفلسطينيين خلال «تهريبهم». تسرد رحلة هروب ثلاثة أشخاص فلسطينيين مع فلسطيني آخر كان قد سبقهم باللجوء إلى الكويت. هذا الشخص يقوم بتهريبهم في النهار في شاحنة داخل خزان ماء مقفل حيث الحرّ شديد.
استطاع «أبو الخيزران» المرور بـ«الشباب» عند أوّل نقطة تفتيش بعد أن عانوا من الاختناق إلا أن الموت فضل أن يزيد عذابهم ليحصدهم عند النقطة الثانية. فبعد أن كان من المفترض أن ينتظروا داخل الخزان لمدة سبع دقائق، طال الانتظار إلى ما يقارب العشرين دقيقة إضافية.
الوصول أو الموت
كيف عاش الفلسطينيون والسوريون هذه الدقائق؟ داخل خزان أو براد أو صندوق شاحنة، هل بكوا؟ هل صرخوا؟ أم استسلموا ببساطة لمصيرهم بعد استنفاذ قوّتهم وقدرة تحمّلهم؟ كنفاني أنهى روايته بصراخ «أبو الخيزران» بعد رميه جثث أبناء وطنه في رمال الصحراء «لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟»
هل قرع اللاجئون السوريون في النمسا جدران الشاحنة؟ أتراهم ضحكوا من سخرية الحياة؟ أتخيل قهقهات أحدهم يردّد بهستيرية نحن الوليمة، سنكون اللحم المشوي هذه الليلة، الطبق الدسم المميّز هذه الليلة سيكون من لحمنا ومن لحم أطفالنا.
أحد «رجال الشمس» بعد مرورهم أحياء عند نقطة التفتيش الأولى قال «سنستريح كثيراً بعد أن نصل وليس قبل ذلك…» وصل اللاجئون الفلسطينيون إلى الكويت والسوريون إلى النمسا، ماتوا على طريق الهروب بين ماضٍ جميل ذكرياته لا تسمح بعيش ذلّ الحاضر ومستقبلٍ موعود لاستعادة أمانٍ مضى. وصلوا، أموات لكنهم وصلوا وسيستريحون كثيراً.