IMLebanon

الربيع العربي الديموقراطية وعصبيات الطغيان

عواصف السنوات الخمس الماضية لم تهدأ في العالم العربي والمحيط وفي سياسة الدول الكبرى تجاه المنطقة. ربيع عربي لا يشبه أي ربيع آخر. خلافاً لمقولة فوكوياما حول نهاية التاريخ بعد الحرب الباردة وهيمنة النموذج الديموقراطي الليبرالي، «التاريخ» في العالم العربي استعاد زخمه واستفاقت معه العصبيات والسلفيات الأكثر تجذراً في تاريخ المنطقة. سنوات قليلة أحدثت تحولات جذرية فاجأت الحكام والمحكومين: أنظمة سقطت، دول تلاشت، مجتمعات تفككت وحروب اندلعت. دول المحيط غير العربي كان لها ربيعها أيضاً. تركيا أردوغان خرقت المحظور في الداخل ومع الخارج وابتعدت عن الدولة التي أسسها أتاتورك. إيران النووية تصالحت مع العالم ولم تعد الثورة أبرز «صادراتها». وحدها إسرائيل لم تتغير، فالاحتلال والاستيطان والتهويد في زخم البدايات.

انتفضت الشعوب العربية بوجه الاستبداد والتوريث وغابت قضايا إقليمية غالباً ما تلازمت مع التحولات السياسية المفصلية في المنطقة. حالات الاعتراض اختلفت بين دول الربيع العربي. في تونس ومصر التزم الجيش الحياد، وهما الحالتان الأقرب الى النموذج الكلاسيكي للانتفاضات الشعبية التي شهدتها دول أخرى. في ليبيا تدخل عسكري خارجي حسم المعركة، وفي اليمن صراع قائم، قبل الربيع العربي وبعده، ازداد تفاقماً مع «عاصفة الحزم». أما سوريا فحالة أخرى في مسار التغيير ومآله منذ انطلاق حركة الاعتراض السلمي، تبعتها المواجهات المسلحة والتدخل العسكري من دول الجوار بأشكال مختلفة، وأخيراً التصدي العسكري الروسي للإرهاب. الأزمة السورية، التي راهن على حسمها سريعاً غير طرف عربي وغربي، لا تزال مستمرة ومعها محاولات إيجاد الحلول السياسية. أما الدول العربية التي لم تشهد «ربيعاً» فتأقلمت مع الحدث واتخذت التدابير اللازمة لتحصين الأنظمة بوسائل الترغيب والترهيب.

لأكثر من عقدين ظل العالم العربي عصيّاً على التغيير الديموقراطي الذي شهدته دول أوروبا الشرقية بعد انتهاء الحرب الباردة، وقبلها عدد من دول أميركا اللاتينية وآسيا. ازدادت الأنظمة العربية تسلطاً، إلى إن أتت الساعة لأسباب غير واضحة في تفاصيلها المؤثرة الى اليوم. وسرعان ما تبيّن أن الميادين ووسائل الاتصال الاجتماعي لم تكن كافية لإحداث التغيير الديموقراطي المطلوب. الحراك المدني الشبابي ترك بصمته، إلا أن القرار الحاسم كان بيد القوى السياسية المنظمة والجيش، مثلما هي حال مصر وتونس. في مصر تحّرك الجيش واستعاد السلطة وفي تونس تحّرك المجتمع. في مصر شرارة الانطلاق جاءت من تونس، وفي تونس شرارة التروّي جاءت من مصر. مسار التحول الديموقراطي في العالم العربي يرتبط أيضاً بالمعارضة ومدى التزامها الممارسة الديموقراطية والقيم الملازمة لها ويتأثر بغياب البيئة الحاضنة في النظام الإقليمي. في العالم العربي غابت قاطرة التغيير الديموقراطي، ولم يلقَ التحول الديموقراطي تأييداً من أي نظام عربي، خلافاً لدور الاتحاد الأوروبي في تعميم الديموقراطية وحمايتها مع انضمام دول أوروبا الشرقية الى الاتحاد. لا تختزل الديموقراطية بالاقتراع الحر يوم الانتخاب.

وإلى جانب الانتفاضات الشعبية، شكلت الحركات الإسلامية، بجناحيها السياسي والعسكري، تحدياً غير مسبوق. مسألة الحركات الإسلامية والجهادية المسلحة غير مرتبطة حصراً بالربيع العربي، إلا أنها من إفرازاته. تجربة جديدة خاضتها الأحزاب الإسلامية في السلطة وجاء النموذج التونسي متّسماً بالواقعية السياسية والاعتدال، خلافاً للحالة المصرية، على رغم تاريخ الإخوان المسلمين الطويل في العمل السياسي في السر والعلن. تشدّد الإخوان في الشأن الداخلي قابله مرونة لافتة في السياسة الخارجية. في ليبيا عمّت الفوضى وأعيد اكتشاف المجتمع المغيّب والدولة التي اختزلها الحاكم. وفي العراق وسوريا انتشرت ساحات القتال وألغت دولة الخلافة الداعشية المجتمعات والحدود والأعراف ومارست الاستبداد بعنف بربري، الى حد بدا فيه تنظيم القاعدة معتدلاً. وكان العراق ساحة حروب مكلفة سبقت الربيع العربي، مع الاجتياح الأميركي في 2003.

بعض دول الربيع العربي باتت مؤهلة لتقديم طلب الانتساب الى نادي الدول الديموقراطية، وإن لم تصبح جاهزة ولا تستوفي الشروط المطلوبة. الجبهات السياسية والعسكرية لا تزال مفتوحة، ومعها المسائل الخلافية في الدين والدنيا والماضي والحاضر، وهي الآن بيد الناس والمجتمعات، لا ملك الدولة والحكام. المحظور سقط والمستور انكشف.

كما أن الخارج بات شريكاً في مسار الربيع العربي ومصيره. تركيا ذهبت بعيداً في مغامرة رئيسها، فانتقلت من «صفر مشكلات» الى مصدر مشكلات لنفسها وللغير. فبعدما كانت سوريا بوابة نفوذ أنقرة الى المنطقة العربية بأداة التطرف الديني، انحازت تركيا الى السعودية واصطدمت بروسيا وتوترت علاقتها مع إيران وانقطعت مع مصر. طهران بالمقابل أكثر ارتياحاً مع انفتاحها على العالم بعد قطيعة طويلة. دول الاتحاد الأوروبي وجدت نفسها بين نارين: فوضى اجتياح اللاجئين من ليبيا والاجتياح المنظم من تركيا. أميركا بعيدة جغرافياً وباردة سياسياً، بعد سياسة جورج دبليو بوش المتهورة في العراق. روسيا هي الأكثر اندفاعاً وحركة، ولحربها في سوريا جدوى غير متاحة في أماكن أخرى. سوريا بوتين اليوم هي عراق بوش الأمس، وإن اختلفت الظروف وطبيعة الأزمات.

بعد الربيع، صيف وشتاء يجمعهما سقف واحد. استقرار الضرورة استعاد موقعه، منافساً قوياً لخيار الديومقراطية المرادفة، في بعض الحالات، للفوضى. تجربة العراق مع الديموقراطية المفروضة لم تكن مشجعة. تونس، حاملة جائزة نوبل، ديموقراطية وحيدة فتيّة، في بيئة إقليمية مناوئة. بين عصبيات الدول والمذاهب والشعوب، عصبية الديموقراطية والحريات تبقى الأضعف في مواجهة عصبيات الطغيان، بعدما خرجت جحافل الإبادة من كهوف الماضي وقبوره، ولا يبدو أنها ستعود إلى جحرها في وقت قريب. بعد الفصول الأربعة، هل ثمة خامس؟