كانت توقعات جميع أصحاب المصلحة والرامي والأهداف بشأن انعقاد القمة العربية في موعدها تصب في اتجاه واحد: ألا ينعقد وأن يجري تأجيله إلى موعد لاحق. فالعوامل السلبية التي كانت تدفع في هذا الاتجاه كثيرة: فالنظام الأسدي بعد خوضه حرب تدمير مبرمجة مدعوماً بالقاذفات الروسية المتطورة وما استطاع إمطاره مدينة حلب الفائقة الأهمية من براميل متفجرة وصواريخ تحمل قنابل عنقودية، كان يحكم طوق الحصار على المدينة بعد سد المنفذ الوحيد المتبقي للمعارضة لتتزوّد لوجستياً بأسباب الصمود. والعراق ليس بحاجة لشروحات مسهبة بخصوص حربه الداخلية في الهجوم على داعش، إذ يبدو المشهد العراقي مأسوياً وكأنه عملياً ونهائياً قد تكرّس إلى ثلاث دول في واحدة، في الوقت الذي تبدو كل دويلة غير متماسكة بتاتاً وأن صراعاً مريراً على الإمساك بالسلطة بالغ ذروته ابتداء من كردستان الشمال حيث الخلاف الكردي الكردي عاد لسابق عهده في ظل الأنظمة السابقة، وحيث في الوسط والجنوب قيادات الحزب الواحد (حزب الدعوة) في مواجهات مستمرة. ولم تعد منطقة الأنبار الشاسعة سوى الجانب الأضعف في هذه المعادلة فقد تعود أهلها السنة على تقبّل الأمر الواقع المرير وهم الذين شاهدوا بأم العين مآسي تكريت والفلوجة وطوزخورماتو وما زالوا يتوقعون الأسوأ في معركة الموصل إذا وقعت. ولسنا بحاجة مجدداً للتعليق على تحول العراق إلى محمية إيرانية يلعب الحرس الثوري الإيراني دور الآمر المهيمن في كل شاردة وواردة فيها وهو ينشئ الآن الحرس الثوري الإسلامي العراقي!
يمعن الاحتلال الإسرائيلي بالمضي في غفلة عن الرأي العام العالمي في سياسة الاستيطان داخل القدس وخارجها وصولاً إلى آخر قرية في الضفة الغربية، رغماً عن بارقة الأمل التي أضاءها المشروع الفرنسي. ففرنسا رغماً عن معاناتها من دموية الإرهاب وتوالي الضربات الموجعة من تشرين الثاني (نوفمبر) 2015 وحتى اللحظة، ما زالت تعتقد كدولة أساسية في الاتحاد الأوروبي أن حلاً عادلاً للقضية الفلسطينية لقادر على تعطيل إحدى ذرائع إرهاب داعش كما كانت هي حال القاعدة منذ عقد ونصف من الزمن. ويبدو أنه رغم تجاهل الواقع الراهن ألا تسلم بأن «القضية السورية» قد لعبت دورها في تصدرها الأحداث واجتذاب الاهتمام الدولي وفي إهالة الكثير من غبار الأغفال والتناسي لمدى أهمية هذه القضية الأم.
لقد كان من المثير واللافت بمكان عدم حضور اي من زعماء دول المغرب الكبير مؤتمر نواكشوط في مطلع الاسبوع الجاري ـ فالجزائر التي تحتل موقع القلب في هذا الشطر الآخر من العالم العربي كانت لها مواقف سلبية من الثورة السورية ضمن حسابات خاصة بها وقد عزز استنكافها عن الحضور مشكلة الصحراء الغربية التي استعاد المغرب الاقصى سيطرته عليها قبل ان يعود مجدداً الى دول الاتحاد الافريقي، أما تونس فهي في شغل شاغل في صراعاتها الداخلية بين العلمانيين والاسلاميين، بل بين العلمانيين انفسهم ناهيك عن هواجسها من امتداد وباء داعش الى عقر دارها، فالتونسيون ينظرون بعين القلق البالغ الى تمزق الوضع الليبي الداخلي من جهى واستفحال شر داعش من جهة اخرى فهم منكبون رغم الصعوبات الاقتصادية والمعيشية وتراجع السياحة عندهم كمصدر رئيسي من مصادر الدخل القومي. لقد تجنت الرباط الصدام بالجزائر فآثرت بدورها عدم الحضور.
هكذا إذاً استضاف هذا البلد العربي القمة العربية وهو الأكثر ميلا لشظافة العيش بل الفقر والذي تجده بحاجة ماسة الى الموارد. فهو بكل بساطة لا يملك الكفاية من الفنادق المؤهلة لاستقبال زعماء الوفود وذلك بصرف النظر عن درجة التمثيل، وكذلك عن مستوى التدابير والاجراءات الأمنية الضرورية للحفاظ على أمن الموفدين. ويعتقد بعض المراقبين ان هذا كان في جملة الأسباب التي حملت الزعيمين السعودي والمصري يمتنعان عن الحضور الا اننا أمْيَل للاعتقاد الى اعادة تحريك جبهات حرب اليمن في تعز وسواها خلافا للمواقف الأولى الصادرة عن الحوثيين ـ صالح في مؤتمر الكويت المتقطع، ومن اعتداءات متواصلة على الحدود السعودية الجنوبية هي التي كانت وراء بقاء العاهل السعودي في موقعه ليتابع مجريات الأحداث. بينما يبقى الهاجس الأمني واردا وراء العزوف المصري الرئاسي.
مخطئ جداً من يظن ولو لوهلة ما ان خطر التدخل الايراني السافر في شؤون الدول العربية قد توقف او يميل الى الهدوء. وعلينا ان ننظر الى المرحلة القادمة بعين الحذر والحيطة والاستعداد. فلم تعد ثمة فائدة قط من الغرق في تفاصيل التلاعب الايراني في العراق ولو في مدى التنسيق العالي المستوى بين مصالح طهران وموسكو في الحرب السورية الضاربة.
فبالعودة الى مداخلة وزير خارجية السعودية عادل الجبير يتبين لنا صدق مخاوفنا من هذا التدخل. فالمضي في سياسة «التطرف والطائفية والارهاب» التي ينهجها النظام الملالي الايراني يتحمل القسط الأكبر من تبعاتها نظام طهران الذي لم يسلم من التدخل السافر بلد عربي واحد من الكويت حتى السودان لا بل هو الذي دشن منذ ولادته سياسة مذهبية داعياً ومحرضاً باللجوء الى الارهاب ما ادى الى استنفار سياسة الإرهاب المضاد المتمثلة بداعش وأمثاله. فطهران الآن هي في غاية الارتياح بعد الضربات الإرهابية التي تطاول دولاً أوروبية كبيرة كفرنسا وألمانيا. فقد استطاع بشار الأسد من أجل بقائه في السلطة أن يدفع بالمجموعات الإرهابية التي تسللت بين المهاجرين السوريين المساكين لتتخذ تارة شكل الخلايا النائمة وطوراً شكل الذئاب المنفردة، فأصبح بإمكانه والحالة هذه إدارة ظهره لقرارات جنيف ويعطل أي حل سياسي أو سلمي للأزمة السورية، لا بل بفعل سياسة التخاذل والممالأة التي تنتهجها واشنطن في ما تبقى من ولاية باراك أوباما حيال التدخل الروسي في سوريا والحديث المتواتر عن شراكة أميركية روسية للعمل معاً في سوريا نفسها أصبح تصريح دي ميستورا الأخير على أن لا لزوم لوقف النار كشرط لاستئناف مفاوضات جنيف المعطلة حول الأزمة السورية، معطى بالإمكان تقبله من دون أي اعتراض دولي وجيه. فلتجري المفاوضات على إيقاع أدوات الحرب وسفك الدماء.
إن الموقف الثابت والمبدئي الذي تنهجه الرياض، في هذا الزمن الصعب من رفضها لأي دور للأسد في مرحلة الانتقال إلى الديموقراطية، وموقفها الثابت والشجاع في المضي فيم واجهة التدخل الإيراني في اليمن، ورفضها لانتهاج سياسة الاقتتال المذهبي بين المسلمين، ودعوتها الملحة لحل المشكلة اللبنانية وها قد دخلنا منتصف العام الثالث والبلاد بلا رئيس، وملاقاة المبادرة الفرنسية لتتجاوب مع مبادرة العاهل الراحل عبدالله بن عبدالعزيز، وأن يتم انعقاد مؤتمر القمة في موريتانيا في موعده. بل أهم من ذلك إعطاء دفع مادي وملموس لمواجهة الإرهاب سواء في منطقتنا العربية أو في الدول الأوروبية وذلك بالتساوق مع مساندة تلك الدول للحق الفلسطيني المشروع، لهو قادر حقاً أن يعزز الأمل لدى الشعوب العربية بأننا ما زلنا نمضي في الطريق القويم.
إن التاريخ سيدور دورته، فكما في الماضي طرح العرب والمسلمون خارجاً تلك الطروحات الظلامية التي اعتمدت الإرهاب والكراهية وسفك الدماء لفرض عقائدها الهجينة فكذلك سنتوصل بالتآزر مع محبي السلام والحرية من دحر الإرهابيين.
هذه هي أهم دروس قمة موريتانيا لمن يريد أن يفهم أن العرب ما زالوا باستطاعتهم الوقوف والتآزر مهما تعاظمت الخطوب.