IMLebanon

الانتفاضات العربية بعد نصف قرن على ظهورها في خضم التغييرات المتتابعة

الانتفاضات العربية بعد نصف قرن على ظهورها في خضم التغييرات المتتابعة

انقاذ لُبنان يواجه انتماءات سياسية متضاربة

والاصلاح يجتاح رواد التجديد ودعاة التكفير!

لبنان الى أين.

والعرب الى اين.

والعالم الى اين؟

ثلاثة اسئلة تدور في خضم التحولات اللبنانية نحو التجديد، وابتعادا عن التمديد، لكن السؤال الاساسي يبقى: هل يتجه الوجدان العربي، بصورة خاصة الى التغيير والتصحيح، ومن ثم الى التسليم بالتغيير، من دون حاجة الى ذهنية واضحة للاصلاح السياسي المنشود.

هذه الامور تنعكس على رقعة الحداثة السياسية، مع انها لا تنطوي على مفاهيم واضحة للديمقراطية السياسية، سواء في التجارب التي عرفتها مصر في نهاية عصر حسني مبارك، او قبله خلال ايام نوري السعيد وما تلاه من اعمال سجن وقتل بعد الانقلاب العسكري في العام ١٩٥٨.

كان احمد حسن البكر رئيسا للجمهورية العراقية، لكن الحاكم الفعلي للعراق يومئذ كان نائبه صدام حسين.

وخلال تلك الحقبة، اندلع الصراع السياسي، بعد القضاء على نظام عبد الكريم قاسم، الى صراع شيوعي، بعثي، وجرت مواجهات حادة بين حزب البعث العربي الاشتراكي والقوى القومية، على الرغم من ان احد المفكرين، كان يقول ان صدام حسين كان ديكتاتورا، ومع ذلك، فقد حصلت الحرب بمزاعم مختلفة. ادت الى تدمير العراق وعاصمته بغداد وظهور الفكر الفارسي في المعادلة السياسية.

في العام ١٩٦٣، كان رئيس الجمهورية الحاكم هو الرئيس احمد حسن البكر، الا ان السفراء العرب الذين كانوا يصغون الى خطابه، قالوا لانفسهم ان الرئيس يتكلم امامنا، اما الحاكم فهو غائب، لان صدام حسين ذهب الى قاعدة الحبانية العسكرية للاعداد للحرب العراقية – الايرانية، فعقب احدهم بان الهجوم الجديد ينذر بشؤم كبير، يحصل تحت مظلة حرب آتية وغير واضحة المذاهب والمعالم.

بعد نصف قرن من تلك الحقبة، كان احمد حسن البكر قد طار من السلطة، واحكم صدام حسين قبضته على الحكم البعثي في ظل تأييد غامض من دول الجامعة العربية.

ما هو المتوقع بعد ربع قرن على الحوادث الغابرة، في خضم التطورات؟

يجيب على هذا السؤال المفكر كريم مروّة بالدعوة الى فكر لبناني جديد، يُفضي الى التغيير المرتقب وهو الخارج من تجارب نضالية كثيرة، ومن نتائج قيادية جعلته يمرّ في افكار يسارية، تكون اكثر تعبيراً عن الشخصية اللبنانية ذات السمات المتعددة في حداثتها ومراميها.

ويدعو كريم مروّة الى يسار سياسي جديد، من اجل ان تستقيم البلاد في عمل سياسي ذي قاعدة اجتماعية تستوعب القاعدة الاجتماعية الواسعة في ظروف لبنانية بالغة التعقيد، وتفضي الى انتخاب رئيس جديد، على اساس قانون انتخابي ديمقراطي يشارك المجتمع المدني في صياغته، حتى لا يبقى انتخاب النواب رهن ارادة امراء الطوائف الحرصاء دائماً على استمرار المحاصصة الطائفية التي لا تزال تنتج الطبقة السياسية نفسها. وتلك هي المهمة الاولى التي تجنّب البلاد الوقوع في الفوضى، بفعل الفراغ السياسي، والشلل الذي يطال مجلس النواب والحكومة.

في خلال ذلك، تتوالى التجارب السياسية، في مواجهة شراسة الصراع بين نظام بشّار الاسد والطبقات السورية المعارضة له.

ويقول رواد هذا الفكر، ان التأخير في رسم معالم ذلك، لا يحتمل بدوره التلكوء في انقاذ الانسان، من حلب الى حمص، ومن بغداد الى الموصل.

ولذلك كان هؤلاء يدعون بإلحاح للعودة الى تاريخ عربي واحد يتحرر من براثن داعش الى مآسي تيمورلنك.

وهذه العودة الى التاريخ السحيق تبررها الاخطاء الواقعة فيها بعض الرؤوس العربية في افكار طائفية، غريبة عن التفكير العربي وما يجري على رقعة التطورات او ما يحدث على جوانب الانفعالات الغرائزية!

فبعد صعود الإسلام السياسي وانفجار الصراع بين أصحاب الخلافة وأتباع الولاية، من السنّة والشيعة، انفجرت الحرب الأهلية في غير بلد عربي، الأمر الذي كانت له ارتداداته السلبية على لبنان.

بذلك تحوّلت الطائفية من قاعدة للتعدّد أو نظام للمحاصصة إلى مشروع خلاص ونهج حياة أو إلى نظام للحماية والوصاية يمارسه أصحابه بصورة عنصرية، فاشية، تؤجج الأحقاد وتصنع العداوات بين الناس، بقدر ما تضع لبنان من جديد على شفير الحرب الأهلية. من هنا لم تعد الطائفية تحمي أحداً، وسط هذا الجنون الديني الذي يمزّق غير مجتمع عربي، بل هي ترتدّ على أصحابها لتحولهم إلى مشاريع قتلى، وكما يحصل في سوريا والعراق واليمن، فضلاً عن لبنان نفسه.

ويقول مفكر بارز انه من الخداع اعتقاد بعض العرب والغربيين بأن النظام السوري الذي بات يعمل تحت وصاية إيران، ثم روسيا، هو الذي يحمي الأقليات المسيحية والعلوية والدرزية والحوثية والشيعية من خطر تنظيم داعش.

ويتابع: ما يجري هو عكس ما يدّعي أصحاب الثالوث المذكور: إيران وروسيا وسوريا. فالحروب المشتعلة في دول المشرق العربي، بقيادة إيران وتدخلها، التي تستهدف تفكيك المشرق العربي، تطال بنهاياتها الكارثية الجميع، ليس فقط الأكثرية السنّية، بل كل الأقليات التي تتحول إلى وقود لإنقاذ أنظمة الاستبداد والفساد، أو إلى أدوات لخدمة استراتيجيات اللاعبين الكبار على المسرح.

إنه لمن الغريب أن تلجأ فرنسا، بحجة المجزرة التي شهدتها باريس في مطلع العام، على يد المنظمات الإرهابية، للتدخل العسكري في سوريا ضد هذه المنظمات، لتكون النتيجة لصالح النظام ومحوره الإقليمي، إذ هم الذين عملوا على إخراج داعش من السجن أو إيقاظه من نومه في كهوف الشريعة، لإستثماره وتوظيفه، وفقاً للإستراتيجيا الجهنمية التي تتبعها الأنظمة الشمولية: خلق أعداء في الداخل والخارج ومحاربتهم لتسويغ الإستيلاء على السلطة والبقاء فيها، أو لتبرير فشلهم والتغطية على مساوئهم. بذلك يقدم له الذين يدّعون محاربته، المشروعية ويمدّونه بأسباب البقاء. هكذا، فنحن ندّعي محاربة الإرهاب، فيما نحن من استدعاه أو صنعه أو استثمره. لا أنسى هنا الولايات المتحدة الأميركية التي كانت المستثمر الأول للإرهاب الإسلامي، فجنت على نفسها وعلى العالم.

إن إنقاذ لبنان يعني من جهة أولى التحرر من براثن الثنائية الشيعية – السنّية، ويعني ثانياً الخروج من قوقعة الأقلية التي هي بمثابة فخّ تحيل أصحابها، تحت ذريعة حمايتهم، ضحايا على مسرح الحروب الدائرة في المشرق العربي، لتفكيك دوله وهدر ثرواته وتخريب بلدانه وعمرانه. وما دام العرب هم المستهدفين بمختلف طوائفهم، فإن الممكن هو أن يتصرف اللبناني بوصفه صاحب هوية مركّبة وعابرة، بأبعادها المتعددة، سواء من حيث هويته الوطنية بحيث يمارس خصوصيته كلبناني تحت سقف الدولة وقوانينها، أو من حيث إنتماؤه العربي بحكم اللغة الجامعة والمصالح المشتركة، فضلاً عن المصير المشترك الذي يعبث به اللاعبون الكبار والصغار. وخصوصاً أن اللبناني يتباهى بعالميته وحبه للمغامرة. آن لنا أن نتحرر من ثنائية الأكثرية والأقلية التي هي المشكلة وليست الحل. فهل نمارس كره هويتنا الوطنية أو العربية كما يفعل كثيرون من فرط تماهيهم مع مرجعيتهم الأقليمية، أم نتراجع عما طرحه المسيحيون العرب في عصر النهضة، فيما اليوم التحديات جسيمة والأخطار على المصير محدقة من كل صوب ومن كل طامع بالغنيمة.

النظام البديل

لا شك أن النظام اللبناني يحتاج إلى الإصلاح، وإن كان أهله والممسكون به هم الذين أهملوا إصلاحه، وبخاصة ساسته الذين التهوا بحفظ مناصبهم وتنمية ثرواتهم، بصورةٍ مشبوهة أو غير مشروعة. فلا يوجد أصلاً نظام سياسي، في العالم، لا يحتاج اليوم إلى الإصلاح، وسط المتغيرات المتسارعة والأزمات المفاجئة، فكيف اذا كان أصحاب النظام في لبنان وصلوا به إلى الحائط المسدود عجزاً وفساداً وتدهوراً مريعاً في شروط العيش وفرص العمل.

لكن من يريد الإصلاح، يجدر به أن يشخص العلّة، لكي يحسن أن يجد المخرج. العلّة الرئيسية الآن، في لبنان، ليست في الدستور ولا في قانون الانتخاب، ولا في النظام نفسه. انها تكمن في مكان آخر: ثمة من قبض على لبنان وأقام نظاماً للحكم، هو غير النظام القديم الذي نريد إصلاحه أو اسقاطه. إنه نظام غير منصوص عليه، صامت أحياناً ومعلَن أحياناً أخرى، قد فُرض بقوة الأمر الواقع. ولهذا النظام رئيسه ورموزه وأركانه، كما له مؤسساته وخططه وجيشه. وهو الذي يعطل عمل الدستور، ويشلّ عمل الحكومة، ويمنع انتخاب رئيس للجمهورية، بل هو الذي يعطّل عمل مجلس النواب نفسه، في انتظار الفرصة، وكما يفكّر أهله، لصوغ نظام جديد في لبنان للمحاصصة والهيمنة، يجعلنا نترحم على النظام القديم.

من هنا فإن الذين يدافعون عن حقوق المسيحيين ويرفعون لواء الجمهورية، ويحذّرون من الوقوع مجدداً في فخاخ المخادعة، لا يفعلون سوى خداع أنفسهم واللبنانيين، لأنهم مجرد حلفاء ضعاف لمن يريدون تطيير الجمهورية أو نسف البلد، إن لم يستطيعوا تشكيل لبنان وفقاً لمشيئتهم. هكذا فإن الهوس بالحصول على منصب الرئاسة، قد ختم على عقول البعض وعلى سمعهم. فهم لا يسمعون قادة محورهم عندما يعلنون أن أربع عواصم عربية قد سقطت في منطقة نفوذهم، أولاها بيروت، أو عندما يؤكدون أن ايران ولبنان هما جسم واحد، رأسه في طهران وأذرعه في لبنان.

مختصر القول، وفي ما يخص المطلب السياسي، إن انتخاب رئيس للجمهورية، هو المخرج الوحيد الأقل كلفة. لذا لا تكمن المشكلة لدى الحكومة، التي هي النتيجة وليست السبب. لأن السبب هو أن مجلس النواب يتقاعس عن القيام بمهمته العاجلة والملحّة، التي لا مهمة له سواها بعد شغور منصب الرئاسة: انتخاب رئيس جديد. وليسمح لي فقهاء الدستور بهذا التأويل للمادة المتعلقة بالشغور. من هنا فالمطلب الآن، أن يضغط أهل الحراك على النواب، بحيث يعطون مهلة أسبوع أو اثنين أو ثلاثة، لانتخاب رئيس، وإلا اعتبر المجلس منحلاً، ويعود عندئذٍ للحكومة أن تدعو إلى انتخاب برلمان جديد. هذا هو المخرج الممكن. أما الذين يطالبون بقانون جديد للانتخاب ينصّ على انتخاب الرئيس من الشعب، فهم لا يريدون حلّ المشكلة، سواء أدركوا ذلك أم جهلوه.

الملهاة الدائمة

أعتقد أن تجربة الحوار في لبنان غير مشجعة. مرة أخرى لا نجرّبنّ المجرّب. فالحوارات التي تجري، منذ عقود، في لبنان، بين ممثلي الطوائف أو بين اركان الطبقة السياسية، كانت سلبية أو عقيمة، لم تحلّ مشكلة، بل أرجأت المشكلات لكي تزداد تفاقماً.

هذا مآل الحوار بين رجال الدين، مسيحيين ومسلمين، وفي الأخص بين المسلمين أنفسهم. لعلّي أكرر القول بأنه ينتهي قبل أن يبدأ. لأن كل واحد يتمترس وراء ثوابته أو ينتظر كلمة مرجعيته في الخارج.

رفع الوصاية

هكذا استمروا عقوداً يشنّون الهجوم على الغرب والحداثة والعلمنة والديموقراطية، فإذا الناس اليوم تعدّت حال الترحم على أيام الاستعمار أو الاستنجاد به لكي يردعنا عن وحشيتنا بعضنا ضد بعض، بل نحن بتنا نلجأ إليه كملاذ ينقذنا من جحيم حياتنا، لنقيم بين أفيائه الحضارية وأجوائه السلمية. فيا لها من مفارقة فاضحة. فأوروبا التي نلجأ إليها قد أحسنت صنع سلامها، بقدر ما تحررت من المنظومات الإيديولوجية والأصولية والشمولية. أما نحن فإننا نصنع فشلنا وحروبنا بقدر ما نعتقد بأن مستقبلنا ينبغي أن يتشكل وفقاً لماضينا وأصولنا وثوابتنا.

فتحية إلى الحبر العظيم بتواضعه وانسانيته البابا فرنسوا الذي لا يتوقف عن الاهتمام بالمسلمين الهاربين من حروب الأهل والأشقاء. وتحية أيضاً إلى السيدة التي لا نظير لها، المستشارة أنجيلا ميركل، لحكمتها ورشدها ومروءتها وحُسن تدبيرها، هي التي أدارت بلدها لتجعله من أغنى البلدان وأقواها، لا بعسكره بل باقتصاده. وكلاهما، البابا والمستشارة، يفضح ما عندنا من دعاةٍ وزعماءٍ ومرشدين يشهدون على قصورهم، بقدر ما قادوا بلدانهم إلى الإفلاس الإقتصادي. فضلاً عن كونهم يسوسون الأمور بغير عقلٍ، يتعاملون مع الآخر بقلب يملأه الحقد، بقدر ما يفكرون بعقلية الثأر والإنتقام، لكي نحصد كل هذه الدماء وكل هذا الدمار. فالأجدى لرجال الدين أن يتّقوا ربّهم ويعودوا إلى رشدهم، لكي ينخرطوا في أعمال المحاسبة عما قدّمت أيديهم من السيئات والشرور.

من هنا إذا كان ثمة مطلب ملحّ، أمام الحراك، في هذا الخصوص، هو رفع وصاية رجال الدين على المجتمع والناس، للعودة إلى مؤسساتهم لإصلاح أمورهم والاشتغال بإعادة بناء ما شوّهوه أو خرّبوه. وأما من أراد الاشتغال بالسياسة، فإنه يصبح كأيّ سياسي معرّضاً للمحاسبة والمناقشة النقدية والعلنية، ولو ساخرة.

خلُقيات الحوار

الحوار، على جبهة الساسة، ليس أفضل منه في معسكر رجال الدين. فالحوار بين أركان الطبقة السياسية ورموزها لن يصل إلى النتائج المرجوة، سواء في ما يخصّ تشخيص المشكلات أو تركيب الحلول.

فلا يمكن للفاسدين أن يكونوا مصلحين، ولا للمخرّبين أن يشتغلوا بالبناء، كما لا يمكن لمن بنوا سلطتهم وثروتهم على الاستثمار في المجال الطائفي، أياً كانت هويتهم، أن يكونوا مع قيام المجتمع المدني. والأهم لا يمكن لمن يرهن بلده للسياسات الخارجية والحروب الإقليمية أن يجلب له أمناً أو يصنع سلاماً.

من هنا فإن مؤتمر الحوار هو محاولة لإنقاذ الطبقة المفلسة، بالالتفاف على المطالب أو سرقة الشعارات، لتلميع الصورة وتحسين السمعة. وإذا كان للحراك من حسنة، فهو فضحه للساسة الذين، على تناقضهم في المواقف والمذاهب، طالما تآمروا على الناس وتواطأوا ضد مطالبهم وحقوقهم ومصالحهم. لأن آخر ما يهم الواحد منهم هو منصبه وثروته وأمنه، ولو ذهب الآخرون إلى الجحيم، والأحرى القول هذا ما يحيل الحياة في لبنان الى جحيم.

فضيحة الحوار

خلاصة القول إن الحوار بين الساسة والقادة هو تمويه للمشكلة. لأن الحوار يعني أن يتزحزح الواحد عن مركزيته وأن يكسر نرجسيته، أو على الأقل بأنه لا يملك كل الحقيقة ولا كل المشروعية. لأن الحقيقة، خصوصاً في المجال السياسي والمجتمعي، هي نتاج تداول وشراكة، لانتاج استئثار وانفراد.

فلا ينجح حوار إذا كان المحاور يفكر بعقلية الإقصاء أو الإتهام للآخر. ولا يثمر نقاش إذا كان المحاور يقول لزميله: ممنوع أن تذكر اسمي على لسانك. مثل هذا التصرف ينسف الحوار من أساسه. وإذا كنا مع الإفادة من التجارب، فالدرس المستخلص هو أن الأوهام والمثاليات والطوباويات الإيديولوجية ساهمت في تخريب لبنان، كما تساهم في تعطيله وشلّه اليوم الديكتاتوريات والأصوليات العنصرية أو الفاشية، السياسية والدينية والمجتمعية.

إن الحوار يفترض بالمتحاورين أن يسيطروا على أنفسهم، بحيث يتحلى الواحد منهم بالهدوء والتعقل، ويتعوّد على قبول الآخر والإنصات إليه، على سبيل التبادل المغني أو التفاعل المثمر، بحيث يتحول عن موقفه لكي يساهم في تحويله، وعلى النحو الذي يفضي الى خلق الأجواء والأطر التي تهيّئ لإيجاد الحلول للمشكلات العالقة.

هذا الإخفاق المتواصل في تجارب الحوار، هو الذي جعل الحلول أو الإتفاقات تأتي دوماً، ليس من داخل لبنان، بل من المؤتمرات التي عقدت في الخارج في رعاية الدول العربية أو الإقليمية، وكما جرى في مؤتمري الطائف والدوحة. وهذه الفضيحة هي آفة وطنية كبرى.

بالطبع إن لبنان البد المنفتح، قد شكل ولا يزال يشكّل، بالنسبة للعرب، الملاذ والملجأ أو المقر والمنبر، للمثقف والكاتب والإعلامي، أو للهارب من الظلم والإستبداد أو من جحيم الحرب المشتعلة في بلده، فضلاً عن محب لبنان الذي يريد أن يقيم فيه، أو يمضي فرصته بين ربوعه. لكن ذلك لا يعني أن يكون لبنان ملجأ أو ملاذاً للسياسي الفاسد الذي سرق خزينة دولته، أو للحاكم المجرم في حق شعبه، أو للداعية الذي يأتي إلى لبنان، لكي يستغل أجواء الحرية فيه، أو لكي يطلب الحماية غير المشروعة على أرضه، وسوى ذلك من النماذج التي يأتي أصحابها إلى لبنان، لكي يُساهموا في تخريبه بعدما ساهموا في تخريب بلدانهم. وإلا تحوّل لبنان من ملاذ آمن ومنبر حرّ إلى بؤرة للفساد أو محمية لشذاذ الآفاق.

أن الحراك الجاري في لبنان، وفي العراق، يعني أن تعثر الثورات العربية ليس نهاية المطاف. فلن تعود الأمور إلى ما كانت عليه، كما يريد فقهاء الظلام وساسة الفساد. بالطبع إن ثمن التغيير باهظ لأن المجتمعات العربية، عجزت، طوال عقود، عن إصلاح احوالها وتدبر شؤونها، بصورة سوية، سلمية، ديمقراطية، مدنية، حتى تراكمت المشكلات واستعصت الأزمات على الحل، فحصل الانفجار. لذا فإن الحدث اللبناني، شأنه شأن الحدث العراقي، ينتج أبواب الأمل من جديد، ولكن بقدر ما يستقطب الحراك أوسع الفئات من الناس، بتركيزه على الملحّ والعاجل، أو على الممكن والراهن، من المطالب والقضايا في مختلف الشؤون والمجالات، وهذا هو أحد دروس تعثّر الثورات العربية.

قد تكون بعض المطالب غير ملحة وغير ممكنة، كقضية الإقامة في لبنان للعربي أو الأجنبي، مع ذلك لا شيء يمنع تسليط الضوء عليها منذ الآن، بوصفها واحدة من المشكلات التي عانى منها لبنان، لكي نحسن التغلب عليها، وهي أن فائض الحرية فيه، والذي هو إحدى مزاياه، كثيراً ما استغل لإنتهاك حدوده وقوانينه والعبث بأمنه واستقراره.

ثم إن الحراك بما يفتحه من إمكان، قد يذلل الصعوبات ويفكك الممتنعات. أليس الحراك، الذي فاجأنا بموجاته وقواه وأساليبه، يقدّم هو نفسه مثلاً على أن المستحيل وغير المتوقع، قد يصبح ممكناً ومتوقعاً. وقد يكون بنّاءً ومثمراً إذا أحسنّا عمل الفهم والتشخيص أو التحويل والتركيب أو التقدير والتدبير.