IMLebanon

… ولقاحُ الخارجِ في دَمِنا

 

 

في جلسةٍ مع بعض النُـخبة من زملاء المهنـة، يسألون:

لماذا نـرى كتاباتك والمقالات تدور في الفلك اللبناني حصراً، ولا تتناول ما في الخارج من وقائع وشؤون تنعكس على الداخل، مثلما كتَّـاب السياسة يكتبون…؟

 

وأُجيب: عـنْ أيِّ خارجٍ وشؤونٍ خارجية تتحدَّثون..؟

 

ومعظمُ الخارج أصبحَ في الداخل، ومشاكلُه وأوباؤُه والمصائبُ والرزايا، والنوائب والبلايا، تراكمتْ كُلّها في لبنان، تهدّد كيانه وأرضَهُ ودولته، وتغتال مصيرَ شعبه المترنّح بين الوجود واللاّوجود…؟

 

عن أيّ شؤونٍ دولية أحدّثكم وقد أصبح دمُنا مدوَّلاً باللّقاح الأميركي واللّقاح الروسي واللّقاح الصيني وسائر اللّقاحات التي هي أشبه بالجراثيم.

 

هل تريدون أن أكتب عن العالم العربي وأزمة الشرق الأوسط وقضيّة العرب الأولى، وأنْ أُعلنَ طهارة مدينة القدس بلسان نـزار قبّاني حين يقول:

وخلَّفوا القدسَ فوقَ الوحلِ عاريةً تُبيحُ عِـزَّةَ نهديها لمِـنْ رَغِبـا..؟

 

وماذا تريدون أنْ أكتب عن الساحات العربية وقدْ تحوّلت إلى قبور جماعية تتساقط فيها الجُثـث بسيف الحاكم وبارود الخارج، والدخان يتراكم عندنا، ونتلقّاهُ مشحوناً كما العبوات الناسفة.

هل أكتب عن انهيارات العالم العربي وتساقط الأنظمة واهتزاز العروش والتنازع على السلطة بين الحكم والشعب..؟

أو أكتـب عن الصراع العربي- العربي، والعربي – الإيراني، وعن «السين – سين» وسائر الحروف الأبجدية والأسماء العربية الخمسة والأفعال الناقصة..؟

 

هل أستعيد معكم «مآثـر» الدول الخارجية منذ مذابح 1860 حين راحتْ تستغلّ مآسي لبنان تحت ستار حماية الطوائف وتقاسمها: فإذا الموارنة لفرنسا، والدروز لإنكلترا، والروم الأرثوذكس لروسيا، والكاثوليك للنمسا، والسنيّون للسلطنة العثمانية التي كانت سلطتها بربريّة مُتأَسْلِمة.

 

هل أحدّثكم عن امتداد الشبح العثماني إلى ديارنا أوْ عن السلطان محمد الفاتح وهو يـدكّ عاصمة البيزنطيين والقادة فيها يتجادلون حول أجناس الملائكة مثلما يتجادل القادة عندنا حـول جـهّنم وأجناس الشياطين..

 

عن أيِّ خارجٍ تريدون أنْ نكتب، ودول الخارج خارجةٌ على القانون الدولي والإنساني، تخوض حروباً باردةً وحروباً ساخنة بواسطة الدول الصغيرة المستضعفة، فيما الشعوب أصبحت وقوداً للحروب.

 

لعلّني أستخلص لكم من الخارج عِبرةً، ومن التاريخ شاهداً عن عالـمٍ يُكنّى بعالم الحضارات.

 

الحضارة العظيمة لا يمكن القضاء عليها من الخارج إلاّ حين تقضي هي على نفسها من الداخل.

 

هكذا كان شأن العظيمتين: إسبرطه وأثينا حين سقطت الدولة الرومانية بفعل الصراعات الداخلية، فاستشرى فساد إداراتها وكسادُ تجارتها، واستبداد حكومتها وازدياد الضرائب الفادحة على الجماهير الكادحة.

 

ومع هذا، فالحضارة تُغمض عينيها ولكنّها لا تموت.

لم تمـتْ الحضارة اليونانية عندما استولت روما على بلاد اليونان…

 

ولم تمـتْ الحضارة اللبنانية وإن استولى عليها الغُـزاة…

الشعوب تتصارع مع الموت، والحضارة تتصارع مع الزمان وتبقى حيّـة في التاريخ.

 

بمثل هذا أكتب لكم عن الشؤون الخارجية…

ولا شأن لي بشعوذة السياسات وتهريج القيادات واللّعب في العقول الساذجة.

 

دعونا من الخارج والخوارج، والداخل الذي في الخارج، والخارج الذي في الداخل.

ولأنَّ ثمـةَ أقلاماً في لبنان لا تزال ملقّحة بحبر الخارج.

إذاً… أتركوا قلمي يكتب عن هموم وطني.