ليست الأزمة المتعددة الأوجه التي يعيشها لبنان مع أشقائه العرب سوى إرهاصات طبيعيّة لخطابات الكراهيّة والعداء التي يكنّها البعض في الداخل إلى الحاضنة العربيّة لأنهم ببساطة يلتزمون وينفذون أجندات غير عربيّة كان لها دورها التاريخي في مناهضة المشروع العربي.
صحيحٌ أن مفهوم العروبة بذاته صار بحاجة لإعادة تعريف وصياغة ولتجديد في العمق بما يتماشى مع قراءة التحولات والاخفاقات الكبرى وتقييمها؛ ولكن الصحيح أيضاً أن العثرات التي إعترت هذا المشروع لا تخوّل البعض جر لبنان إلى مشاريع تتناقض تماماً مع تاريخه وتراثه وإمتداده الطبيعي وعمقه الجغرافي والثقافي والتراثي.
إن إشاحة النظر عن هذه المعطيات والاصرار على إختطاف البلاد ومصادرة قرارها الوطني والسياسي المستقل وإلحاقها بمحاور إقليميّة لم تؤدِ سياساتها سوى إلى الخراب والدمار حيثما حلت، إنما يماثل الانتحار السياسي الجماعي. لكن المشكلة أن قرار الانتحار لا يوافق عليه اللبنانيون جميعاً بل بعض الجهات فيه لحساباتها المصلحيّة وإعتباراتها العقائديّة الخاصة.
من هنا، ليست الأزمة المستفحلة مع العرب مجرّد غيمة صيفٍ عابرة. المشكلة أعمق من ذلك بكثير، فهي تولدت بعد وقوع الكثير من المؤشرات التي كانت تؤكد أن الأمور تسير في هذا الاتجاه.
لقد أدّى التطابق شبه الكامل بين الخطاب الرسمي للدولة اللبنانيّة ممثلة برئيس الجمهوريّة بالدرجة الأولى وبين الجهات التي تختطف القرار الوطني (بموافقة ضمنيّة منه في مطلق الأحوال) إلى إسقاط الهامش، ولو المحدود بينهما. كان ذلك الهامش موجوداً أيّام الرئيس ميشال سليمان الذي حاول، بمعزل عن الظروف الدوليّة والاقليميّة إلى إبقاء النقاش حول الخطة الدفاعيّة حيّاً بشكل أو بآخر. هذا ما لا يحصل اليوم.
المشكلة اليوم أن الجهات القابضة على السلطة (بدءاً من الرئاسة الأولى) لا تُقارب القضايا الوطنيّة إلا من زاوية مصلحة التيار الذي أسسته، وليس من زاوية المصلحة الوطنيّة اللبنانيّة العليا، فلم تنجح في الانتقال من ضفة التيار إلى ضفة الدولة. ليس هناك أسوأ من الممارسة الحزبيّة المصلحيّة الفئويّة الضيّقة لمن هم في أعلى مراتب الحكم. إنهم رجال سلطة وليسوا رجال دولة.
إن هذه المصلحة الخاصة بالضبط هي التي تحول مثلاً دون ضبط الحدود ووقف التهريب على المعابر الشرعيّة وغير الشرعيّة، وهي التي تحول دون الدعوة مجدداً إلى نقاش الخطة الدفاعيّة لإستعادة قرار الدولة المسلوب في المجال السيادي والذي أصبح يشكل عبئاً كبيراً على الواقع اللبناني، وليست الأزمة مع الخليج العربي سوى أحد مؤشراته.
بكل بساطة، لا يمكن للبنان أن يكون مع الخليج الفارسي في مواجهة الخليج العربي. هو أساساً عضو مؤسس في جامعة الدول العربيّة وكان ولا يزال جزءاً من المنطقة العربيّة حيث شكل في مراحل معيّنة مركزها النابض في المجالات الإقتصاديّة والتجاريّة والماليّة والثقافيّة والعلميّة والاستشفائيّة.
ورجاءً لكل أولئك الذين يتحدثون عن إنهيار المشروع العربي، فإن ذلك لا يبرّر رمي لبنان في قلب المشاريع المناهضة للعروبة، مهما تشوّهت مفاهيم العروبة أو وتراجعت مجالات تطبيقها. ليس لبنان الذي يطعن بالخنجر أشقاءه العرب، ومن أجل ماذا؟ ومن؟ ليس لبنان الذي يتنكر لهويته الأصليّة في سبيل أي كان، وفي سبيل ليترات من المحروقات لم يكن من داعٍ لاستقدامها لو ضُبطت المعابر من الأساس. جميلٌ أن تفتعل المشكلة ثم تبادر إلى حلها وتجاهر بذلك أمام الناس! ألم يكن عدم إفتعالها أفضل من الأساس؟
لبنان سيعود إلى العرب، والعرب سيعودون إلى لبنان. هذه هي الصيرورة الطبيعيّة. هذه هي دروس التاريخ والجغرافيا التي لا يمكن إغفالها مهما طال الزمن.