«أَنَا يُوسُف يَا أَبِي. يَا أَبِي، إِخْوَتِي لَا يُحِبُّونَنِي، لاَ يُريدُونَنِي بَيْنَهُم يَا أَبِي. يَعتدُونَ عَلَيَّ وَيرْمُونَنِي بِالحَصَى وَالكَلَامِ يُرِيدُونَنِي أَنْ أَمُوتَ لِكَيْ يَمْدَحُونِي. وَهُمْ أَوْصَدُوا بَابَ بَيْتِك دُونِي. وَهُمْ طرَدُونِي مِنَ الحَقْلِ. هُمْ سَمَّمُوا عِنَبِي يَا أَبِي. وَهُمْ حَطَّمُوا لُعَبِي يَا أَبِي. حِينَ مَرَّ النَّسِيمُ وَلَاعَبَ شَعْرِيَ غَارُوا وَثَارُوا عَلَيَّ وَثَارُوا عَلَيْكَ، فَمَاذَا صَنَعْتُ لَهُمْ يَا أَبِي؟ الفَرَاشَاتُ حَطَّتْ عَلَى كَتِفَيَّ، وَمَالَتْ عَلَيَّ السَّنَابِلُ، وَالطَّيْرُ حَطَّتْ على راحتيَّ. فَمَاذَا فَعَلْتُ أَنَا يَا أَبِي؟ وَلِمَاذَا أنَا؟ أَنْتَ سَمَّيْتنِي يُوسُفًاً، وَهُمُ أَوْقعُونِيَ فِي الجُبِّ، وَاتَّهمُوا الذِّئْبَ؛ وَالذِّئْبُ أَرْحَمُ مِنْ إِخْوَتِي.. أُبَتِ! هَلْ جَنَيْتُ عَلَى أَحَدٍ عِنْدَمَا قُلْتُ إنِّي رَأَيْتُ أَحدَ عَشَرَ كَوْكبًا، والشَّمْسَ والقَمَرَ، رَأَيتُهُم لِي سَاجِدِينْ.»
أذكر، وكأنّ الأمر يحدث اليوم، كيف أثارت هذه الأبيات حفيظة بعضاً من مدّعي الحرص على المقدسات، وكأن الكلام المقدس معزول عن البشر، مع أنه موجّه للبشر لأخذ العبر والاعتبار من المثل. لو كان هذا الكلام لا علاقة له بالناس في حياتهم لما تم توجيهه لهم برسائل لعلهم يتّقون. لم تنج تلك الأبيات من محكمة التفتيش يومها إلا عندما تدخل رفيق الحريري الطيب الذكر، وأنقذها من المحرقة عندما تحولت أغنية رائعة تليق بها، لحّنها وغنّاها مرسيل خليفة.
لست أدري، وأنا أمرّ في حال وجدانية، كيف تذكرت تلك القصيدة ووقعت في شراكها وأنا أراجع كيف ولماذا نحن وصلنا إلى ما وصلنا إليه في وطننا من إِفراد يشبه قول طرفة بن العبد في المعلقة «إِلَـى أنْ تَحَامَتْنِي العَشِيْرَةُ كُلُّهَـا / وأُفرِدتُ إفرادَ البعير المعبّدِ».
لكن، وبموضوعية، وبلا عتب أو ضغائن أو إحساس بالظلم المرضي، فلا يحق لإخوة يوسف أن ينسوه في البئر الذي ساهموا، عن وعي أو من دونه، في رميه فيه. كل ذنب لبنان هو أنه هو ما هو، لم يختر لا الموقع ولا الزمن الذي أُسقط فيه، من دون سابق علم أو مسؤولية عما هو فيه. فلم يكن طرفًا في معاهدة سايكس-بيكو، ولم يكن سبب تنكّر الغرب لثورة الشريف حسين على السلطنة العثمانية، عندما سقط الحلم بالمملكة العربية المتحدة، من المحيط إلى الخليج. ولست أعلم اليوم، وتركة سايكس-بيكو تتفتت إلى قطع أصغر بحكم قبليتنا، إن كانت تلك المملكة ستصمد في وجه العصبيات الفارغة التي ما زالت تحكم واقعنا وتتحكم بغدنا؟
لبنان أيضًا لم يكن على علم بوعد بلفور الذي أوصل إلى كارثة أهل فلسطين، التي ظننا يومًا أنها مسؤولية العرب جميعًا في التعويض عنها. لكنه، فجأة، صار في وسط المعمعة ولم يبخل كثيرون من أهله عن تقديم أرواح أبنائهم فداءً لفلسطين. ولم يكن لبنان سبب تهجير الفلسطينيين من بيوتهم، لكنه بحكم الجغرافيا أصبح ملاذًا لهم، حتى وإن لم يكن بعض أهله يريدون ذلك. مسؤولية العرب وقتها كانت أنهم لم يفعلوا ما كان صائبًا، أو على الأقل لم ينجحوا في اختيار ما هو نافع. بالطبع، سيقول البعض ان المؤامرة كانت أكبر منهم، لكن من قال لهم أن يتناحروا ويتقاتلوا ويتآمروا كلّ على كل. ففي يوم يتباوسون وفي آخر يتشاتمون، وكلّ يحمل الخنجر وراء ظهره تقبيلًا أو تشاتمًا.
لم تكن حربنا الأهلية الأولى سنة 1958 إلا نتاج هذا الواقع العربي. صحيح اننا ساهمنا في تفاقمه بنزوعنا إلى الانتحار الجماعي، لكن الوضع برمته كان نتاج الواقع العربي. ولم نكن سبب هزيمة 1967 التي نسميها نكسة لنتكاذب بعضنا على بعض، ولم نتسبب بنشأة المنظمات الفلسطينية المتعددة والمتناحرة، بل كان ذلك نتيجة الفشل العربي. صحيح أن غباء بعضنا بالسعي الى تغيير المعادلة بالاستقواء بتلك المنظمات، وفي بعض الأحيان الحميّة العروبية، أجبر الدولة على التفريط بالسيادة في اتفاق القاهرة، لكننا لم نكن نحن من دفع قيادة الثورة الفلسطينية وفصائلها إلى لبنان بعد مجازر عمان والسلط في 1970 و 1971. من بعدها أصبح المسار نحو الكارثة حتميًا، حتى وصلنا إلى حروبنا الأهلية المتعددة منذ عام 1975. وعندما دخلت قوات الردع العربية عام 1976، تركتنا القوات المشتركة العربية للنظام السوري، وتم تسليم لبنان له لتستمر الحرب الأهلية لعقد ونصف عقد. في الاجتياح الإسرائيلي الأول سنة 1978 لم نسمع سوى الاحتجاجات ولم نسمع حتى بإعلان تعبئة عامة من أي جيش عربي، وحتى الجيش السوري بقي يتفرج على مئات آلاف المهجرين من الجنوب، نواة نشأة «حزب الله»، من دون أن يرشق العدو حتى بحجر، وفاءً للاتفاق مع كيسنجر.
في تلك الأثناء كان بعض إخوتنا العرب يستعدون للسلم مع إسرائيل. ثالثة الأثافي كانت في اجتياح 1982، يوم احتلت بيروت واستبيحت أجساد البشر في صبرا وشاتيلا، ولم نجد جيشًا واحدًا يتحرك لنجدتنا. هذا الفراغ القاتل كان مدخل إيران إلى لبنان تحت شعار مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. من ثم، أصبحت الأمور تتطور منطقيًا بالقضم المنهجي حتى ما وصلنا إليه اليوم، جزء منه لأن معظم العرب آثَر رمي المصيبة اللبنانية على النظام السوري. اتفاق الطائف كان حتمًا برعاية عربية، لكن المتابعة كانت هامشية ومتروكة لسوريا بين أطماع إيران وهواجس العرب.
عندما اغتيل رفيق الحريري، لم يكن اغتياله لشخصه، بل لأنه كان يمثل واجهة المشروع العربي في مواجهة المشروع الفارسي، ورغم ذلك انتهينا إلى دفع إبنه للذهاب إلى دمشق تحت وهم اتفاق سمّي سعوديًا ـ سوريًا.
من بعدها، أصبحت الأمور ذاهبة بلا رادع نحو مزيد من التدهور بحكم الفراغ الذي تركه التجاهل العربي لخدمة المشروع الفارسي العابر للحدود والقارات، ليس في لبنان وحده، بل في سوريا والعراق. لم يستفق أحد إلا عندما وصلت الأمور إلى الأبواب في اليمن، فصار الخطر محدقًا، لكنه في الواقع نتيجة منطقية للعجز عن المواجهة في مناطق أخرى، فكما يقال «فرعون لم يتفرعن إلا لأن أحداً لم يردّه».
قد أتفهّم من إخوة يوسف بعض القسوة عليه، لكن أن يُترك في البئر ليموت وحيدًا، أو في البرية لتنهشه الضباع، أو حتى في حضن فرعون؟